Monday, April 6, 2015

المذهب الذاتي و معرفة الله تعالى

السؤال : السلام عليكم سماحة الشيخ حيدر السندي المحترم (دام توفيقه) لو سمحتم بينوا لي رأي الشيهد الصدر في إثبات وجود الله بالاستقراء ، وشكراً لكم مقدماً .
الجواب : بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين .
استجابة لطلب السائل الكريم سأتحدث حول المعرفة الحصولية بالله تعالى من خلال الأسلوب العلمي الذي يعتمد على حساب الاحتمالات وهو الذي شيد أركانه الشهيد السعيد والمفكر الإسلامي الكبير محمد باقر الصدر ( رحمه الله) ، وذلك ضمن مقامين:
المقام الأول: في تلخيص نظرية الشهيد ( رحمه الله) في إفادة الاستقراء لليقين .
أفاد السيد الشهيد في كتابه الأسس المنطقية للاستقراء : أنّ علماء المنطق الصوري حصروا كيفية لتحصيل المجهول في طريق واحد وهو طريق التوالد الموضوعي للمعرفة ، والمراد به أن الإنسان لا يمكن أن يتوصل من معلومات حاضرة إلى معلومات مجهولة إلا إذا كان هناك ترابط واقعي بين المعلومين أي بين المعلوم في العلم الحاصل و بين المعلوم في العلم الذي يراد تحصيله ، ولترابط يحصل بما يسمى الحد الأوسط .
ومثل للحد الأوسط بـ(التغير) الذي يربط بين العالم والحدوث ، و كل برهان يعتمد على الحد الأوسط، ووظيفة الحد الأوسط هي القيام بالربط في التوالد الموضوعي فيربط بين المعلوم في العلم الحاصل وبين المعلوم في العلم الذي يراد تحصيله ، فإني إذا أدركت وجود العالم والحدوث، وهي معلومات حاضرة وشككت في ثبوت الثاني للأول ، فلا أستطيع أن أربط بينها وأعلم بثبوت الحدوث للعالم إلا إذا كان هناك ترابط واقعي بقطع النظر عن العالم وعلمه بين الحدوث والتغير الثابت للعالم ، وبعبارة أخرى بين ما أعلمه في علمي بتغير العالم ، و ما أريد العلم به وهو حدوث العالم ، ووجود لترابط الواقعي بين التغير والحدوث هو الطريق نحو تحصيل العلم بثبوت الحدوث للعالم، فإن التغير علة للحدوث وبتوسيطه يتم إثبات الحدوث ( المعلول ) للعالم. 
فإذن اتضح ذلك يتضح أن الحد الأوسط لابد وأن يكون ثابتاً متيقنا به وإلا لا قيمة له ولا ينتج في عملية التفكير، فإننا إذا كنا لا تعلم بثبوت التغير للعالم فلا يمكن أن نعلم به ثبوت الحدوث للعالم ، و عليه لا بد وأن يكون ثبوت التغير للعالم إما بديهياً أو نظرياً قام عليه البرهان قطعي ، والبرهان لابد وأن يعود إلى البديهيات وإلاّ يلزم التسلسل أو الدور.
من هنا ذكر علماء المنطق أن كل مقدمة من مقدمات البرهان إما أن تكون بديهية أو تكون راجعة إلى البديهيات وذكروا مجموعة من القضايا بديهية مستغنية عن الدليل يدركها العقل بلا برهان ، وهي الأساس التي تشكل الروابط الواقعية بين الأشياء، وبها يُنتقل إلى المجهول، وحصروها في ست: الأوليات، الفطريات، المتواترات، التجريبيات، المحسوسات، الحدسيات.
و وجود طريق معرفي يعتمد على روابط واقعية نتحصل فيه على العلم من خلال التوالد الموضوعي بين المعلومات صحيح ولكن علماء المنطق أخطئوا في جهتين:
الجهة الأولى: حصرهم لطريق المعرفة في الطريق المتقدم، والحق أن هناك طريقاً آخراً لا يعتمد على التوالد الموضوعي الخارجي ، وإنما يعتمد على طريقة التوالد الذاتي التي يبتني عليها المذهب الذاتي وهو الطريق الاستقرائي .
الجهة الثانية: عدهم لمجموعة من القضايا بديهية أو مثبتة بالأسلوب البرهاني، وهي ليس كذلك، فإنّ كثيراً من القضايا المعتبرة عندهم بديهية ليست كذلك بل تعود إلى الأسلوب الاستقرائي كالمتواترات والتجريبيات والحسيات أو عدهم لقضايا برهانية لكنها في الأساس تعود إلى قضايا استقرائية كأصل العلية الذي اعتبره السيد الشهيد في فلسفتنا وكذلك الشيخ محمد تقي مصباح في المنهج الجديد أساساً لجميع الاستدلالات العقلية، فبدون أصالة العلية لا يمكن أن نستفيد من أي برهان لأنّ ثبوت نتيجة أي استدلال متوقف على ثبوت مقدمات الاستدلال ( صغرى كبرى ) فالمقدمات علة للإثبات ، فلو لم نسلم بقانون العلية فلا يمكن الإثبات أصلاً.
و السيد الشهيد (رحمه الله) في آخر نتاجه كما في مقدمته المهدوية رفع اليد عن كون هذا الأصل حاصلاً بعلم سابق على الاستقراء و ذكر أنه أنه لم يؤخذ من البرهان العقلي بل مأخوذة من حساب الاحتمالات والدليل الاستقرائي.
ثم عقد بحثاً كاملاً مستقلاً في بيان مميزات القضية البرهانية والقضية الاستقرائية.
وأهم ميزة أن القضية البرهانية إما أن يقام عليها البرهان فيحصل لك اليقين أو لا، بخلاف القضية الاستقرائية التي يتراكم فيها الاحتمال من 10% إلى 20% حتى يصل إلى 100% بعد المرور بمرحلتين يأتي بيانهما.
مثلاً إذا أخبرك شخص بوقوع حادث تحصل عندك نسبة احتمالية وإذا أخبرك شخص آخر بنفس الخبر تزيد هذه النسبة الاحتمالية وهكذا، كلما كثر عدد المخبرين قوي الاحتمال حتى تصل إلى مرحلة اليقين، فالتراكم كاشف عن أن قضية وجود حادث في الخارج استقرائية لا برهانية . 
وهذا جارٍ في قضية (الصدفة لا تكون أكثرية فضلاً عن دائمية)، والمقصود فيها الصدفة النسبية أي اتفاق ظاهرتين من دون أن يكون هناك قصد وإرادة لاقترانهما، وهي في نفسها غير مستحيلة إذ يمكن أن يرمي أحد كرة من السطح ومن دون قصد صدفة يمر شخص فتضربه الكرة على رأسه ، ولكن أن يتكرر بحيث يكون أغلبي أو دائمي هذا مما لا يمكن، وذهب المنطق الأرسطي إلى أن عدم الامكان عدم الإمكان لوجود برهان عقلي يلزم من ذلك محذور عقلي، بينما السيد الشهيد فسره بحساب الاحتمالات.
إذن اتضح أنّ السيد الشهيد لا يرى حصر الطريق المعرفي في طريقة التوالد الموضوعي، بل يرى أن الإنسان في كثير من المعارف البشرية يتوصل من معلومات عنده إلى معلومات غير حاضرة عنده لوجود ترابط بين العلمين لا ترابط بين المعلومين، فنفس العلم بشيء يوجب العلم بالشيء الآخر مع عدم وجود أي ترابط بين المعلوم في العلم الأول والمعلوم في العلم الثاني.
ومن هنا قد يستغرب الإنسان في بادئ الأمر إذْ كيف يمكن أن نحصل على معرفة من خلال معرفة أخرى مع عدم وجود ترابط واقعي بين المعرفتين، فهل يمكن أن نعلم مثلاً بقدوم المسافر بمجرد وقوع شيء على الأرض مع أنه لا ارتباط واقعي بين المعلومين في هذين العلمين؟
ويجيب السيد الشهيد بإمكانية ذلك ولكن ليس في المثال المتقدم بل في المعرفة الحاصلة بالاستقراء.
وبيان نظرية السيد الشهيد (رحمه الله)ضمن نقاط ثلاث:
النقطة الأولى: إشكالية إفادة الاستقراء الناقص لليقين.
جاء في علم المنطق أنّ الاستقراء ينقسم إلى قسمين:
الأول: الاستقراء التام.
وهو الذي يكون السير فيه من المساوي إلى المساوي، وهو أن نلاحظ جميع الأفراد، ثم نجد أنّ جميعها تشترك في حكم، ثم نعطي حكماً لكل الأفراد. فلو سخنا كل أفراد الحديد، سنصل إلى النتيجة وهي أنّ كل حديد يتمدد بالحرارة، وهذا معناه السير فيه من المساوي إلى المساوي.
الثاني: الاستقراء الناقص.
وهو الذي يكون السير فيه من الخاص إلى العام، أي النتيجة أوسع من المقدمات، كما لو لاحظنا ألف حديدة ، ووجدنا أنها تمددت عندما سلطنا عليها النار ، وقلنا كل حديد يتمدد .
بعد إيضاح تقسيم الاستقراء، لا اختلاف بين علماء المنطق الأرسطي والسيد الشهيد في إفادة الاستقراء الناقص لليقين فضلاً عن التام.
ولكن كيف أفاد الناقص اليقين مع أننا لم نستقرى إلاّ بعض الأفراد ة؟
النقطة الثانية: جواب المنطق الأرسطي للإشكال المتقدم.
أجاب بالطريقة التي يعتقد أنّ تحصيل المعارف لا يمكن أن يتم إلاّ بها، وهي طريقة التوارد الموضوعي، وبيانها كالتالي:
أنه يوجد قياس خفي كبراه الصدفة لا تكون دائمية ولا أكثرية وصغراه تكرار تمدد الحديد عند تسليط الحرارة عليه، فبضم الصغرى إلى الكبرى نصل إلى لليقين، والكبرى ليست استقرائية بل برهانية فيعود العلم المستفاد من الاستقراء إلى العلم المستفاد بالبرهان، أما ما هو البرهان على أنّ الصدفة لا تكون أكثرية؟
توجد أدلة متعددة؛ وأهمها الاعتماد على برهان الحكمة والعناية، فإنّ الله تعالى حكيم ومقتضى حكمته وعنايته تعالى إيصال كل ممكن لغاية، وإلاّ يلزم العبث، فالقول بعدم وجود سببية للنار مع التمدد مع أنّ الأغلب في الخارج اقتران هذين الأمرين معناه التفكيك بين فعل الله تعالى وبين الغرض والحكمة التي من أجلها خلقت النار.
النقطة الثالثة: عدم تمامية الجواب المتقدم بنظر الشهيد.
أفاد السيد الشهيد (رحمه الله) أنّ الجواب المتقدم لعلماء المنطق غير تام لأن الكبرى –الصدفة لا تكون أكثرية فضلاً عن دائمية- التي استندوا إليها ليست برهانية بل استقرائية، فبالتالي لا يمكن أن تكون هي السبب لإفادة الاستقراء لليقين، وذكر أن مميزات القضية الاستقرائية موجودة فيها في بحث مفصل لا نقم عنده في هذا المختصر .
من هنا اقترح السيد الشهيد (رحمه الله)طريقة أخرى لحل الإشكال الآنف الذكر، وهي طريقة المذهب الذاتي.
وهي تمر عبر مرحلتين:
المرحلة الأولى: المرحلة الموضوعية للمذهب الذاتي.
وهي المرحلة التي تعتمد على ترابط موضوعي وذلك بالسير في الطريق الذي أقره علماء المنطق وهو الاعتماد على روابط واقعية، وبيانها كالتالي:
إذا سلطنا النار على الحديد في الفرد الأول ووجدنا أنّ الحديد قد تمدد يحصل عندنا احتمال أن تكون الحرارة هي علة للتمدد، وكذلك يحصل عندنا احتمال وجود علة أخرى اقترنت بالحرارة على حد سواء، وإذا كررنا العملية مرة ثانية فوجدنا أنّ الحرارة اقترنت بتمدد الحديد سيضعف احتمال العلة الأخرى، ويقوى احتمال أن تكون الحرارة هي العلة، فضعف احتمال وجود علة أخرى وقوة احتمال الحرارة هي العلة خاضع لقوانين رياضية موضوعية، من هنا عبر السيد الشهيد عن هذه المرحلة بالمرحلة الموضوعية للمذهب الذاتي.
ولتقريب الصورة أكثر نمثل بهذا المثال:
إذا كان عندي عملة وجه فيها كتابة والوجه الآخر صورة، ثم رميت بها في الهواء عشر مرات، فعندما تسقط على الأرض يوجد عدة احتمالات فممكن في المرة الأولى أن تكون كتابة وفي المرة الثانية صورة وفي الثالثة صورة وفي الرابعة كتابة وهكذا، ومن ضمن الاحتمالات أيضاً أن تسقط العشرة كلها وجه واحد، وهو احتمال ضعيف، لأنّ ظهور جميع الرميات بوجه معناه أن تفترض نفس الطاقة الرامية وسرعة الهواء، ونفس المسافة في الرمي، وسطحية الأرض، وهكذا لا بد من اجتماع آلاف الصدف، بخلاف لو خرجت متفاوتة ومختلفة وذلك لاختلاف الظروف.
إذا اتضح هذا المثال يتضح ما مثلنا به مسبقاً، فإنه عندما نسلط الحرارة على الحديد و تمدد الحديد في التجربة الأولى يوجد احتمالان على حد سواء، وهما احتمال أنّ العلة هي الحرارة واحتمال علة أخرى غير الحرارة، ومعناه في القانون الرياضي أنّ الاحتمال الأول 1 على 2 (النصف) وفي الاحتمال الثاني كذلك، وإذا قمنا بالتجربة مرة أخرى يوجد احتمالان أيضاً لكن ليس على حد سواء، بل أنّ احتمال العلة هي الحرارة أقوى من احتمال علة أخرى غيرها، ومعناه في القانون الرياضي أنّ الاحتمال الأول سيكون 3 على 4 (ثلاثة أرباع) بينما في الاحتمال الثاني 1 على 4 (ربع)، وإذا قمنا بالتجربة مرة ثالثة سيضعف الاحتمال الثاني وسيكون 1 على 8، وفي التجربة الرابعة 1 على 16، إلى أن نصل إلى حد يكون فيه احتمال أن تكون هناك علة أخرى اقترنت بالنار 1 على مليار، وهو احتمال ضعيف جدًا.
إلى هنا انتهينا من المرحلة الأولى.
المرحلة الثانية: المرحلة الذاتية للمذهب الذاتي.
وهي التي لا نعتمد فيها على روابط واقعية وإنما نعتمد على روابط ذاتية، وبيانها كالتالي:
اتضح سابقاً في المرحلة الأولى أنّ قوة الاحتمال تمركزت في كون الحرارة هي العلة وضعف احتمال وجود علة أخرى إلى حد كبير جداً ( 1 على مليار أو أضعف بحسب عدد حالات التجربة ) ، فإذا وصلنا إلى هذه النسبة سيقوم الإنسان تلقائياً بإلغاء هذا الاحتمال الضعيف جداً و يتحول اطمئنانه المتاخم لليقين إلى قطع، وعلل السيد الشهيد ذلك بأنّ هذا خاضع لقانون ذاتي ووجداني، لأنّ الله تعالى خلق الإنسان وجعله بكيفية لا يحتفظ بالقيم الاحتمالية الضعيفة.
وإذا تأملتم في المثال المتقدم يتضح أنه لا يوجد ترابط بين الأمرين أي بين أن يكون احتمال وجود علة أخرى 1 على مليار وبين أن تكون الحرارة هي العلة في الواقع للتمدد بل يوجد ترابط علمي كما أشرنا إليه سابقاً ففي المذهب الذاتي ننتقل من علم إلى علم لوجود علاقة بين العلمين لا المعلومين، ولا علاقة بين المعلومين إذا التفكيك بينهما لا يلزم منه محذور التناقض أو الدور أو التسلسل إذْ يمكن أنّ الله تعالى يقرن بين علة التمدد وبين الحرارة في مليار حالة .
ثم إنّ الوصول إلى اليقين من خلال هاتين المرحلتين يتوقف ـ كما هو ظاهر بالتأمل ـ على التسليم بمصادرات ثلاث ذكرها (رحمه الله) :
الأولى: استحالة اجتماع النقيضين.
الثانية: القبول بالقواعد الرياضية التي ذكرت في حساب الاحتمالات على ما بيناه سابقاً.
الثالثة: عدم وجود استحالة لثبوت أصل السببية ومبدأ العلية.
وما ذكرناه في هذا المقام ما هو إلاّ خلاصة خلاصة الخلاصة لما ذكره ( رحمه الله) في كتابه الأسس المنطقية للاستقراء.
المقام الثاني: في كيفية استفادة معرفة وجود الله تعالى بالدليل الاستقرائي.
وفي هذا المقام نطبق الدليل الاستقرائي على إثبات وجود الله تعالى، وقد ذكره (رحمه الله) في كتابه المرسل والرسول والرسالة، الذي جعله مقدمة في أصول الدين على كتاب الفتاوى الواضحة.
وقد بين السيد الشهيد (رحمه الله) أنّ الدليل الاستقرائي في أي مسألة بما فيها مسألة إثبات وجود الله تعالى يمر بخطوات خمس، ثم ذكر مثالاً لها ومن ثم طبقها لإثبات معرفة الله تعالى.
من هنا سيكون البحث في هذا المقام في ثلاث نقاط:
النقطة الأولى: في ذكر الخطوات الخمس التي يسير فيها الباحث بالدليل الاستقرائي.
النقطة الثانية: ذكر المثال الذي طبقه السيد الشهيد على الخطوات الخمس.
النقطة الثالثة: تطبيق الخطوات الخمس على معرفة الله تعالى.
أما النقطة الأولى:
فأفاد (رحمه الله) أنّ أي دليل استقرائي يقوم به الباحث يمر بخطوات خمس:
الخطوة الأولى: أنه يواجه مجموعة من الظواهر، وفي مثالنا المتقدم قد واجه الباحث ألف ظاهرة لتمدد الحديد عندما سلط النار عليها.
الخطوة الثانية: محاولة تفسير هذه الظواهر، فما هو منشأها؟ فيظفر بفرضية قابلة لتفسير جميع هذه الظواهر، وفي مثالنا الفرضية هي أن تكون النار هي العلة للتمدد.
الخطوة الثالثة: وهي إذا لم نسلم بتلك الفرضية، فما قيمة احتمال أن تجتمع كل الظواهر؟
ومن هنا يقول (رحمه الله) سنجد أنّ نسبة اقتران واجتماع هذه الظواهر ضعيفة جداً بحساب الاحتمالات، لأننا نفترض وجود عوامل أخرى متعددة والصدفة اقتضت مع اختلاف الظروف أن تجتمع علل أخرى في ألف مورد مقارنة للحديد ونتيجة قيمة احتمال اجتماع جميع هذه الظواهر تعتمد على الضرب كما أسلفنا والضرب يعطينا قيمة احتمالية ضعيفة جداً.
الخطوة الرابعة: وهي أنه سيتحول احتمال فرضية أنّ النار هي العلة إلى الظن ومن ثم إلى اطمئنان بصحة الفرضية لأنّ احتمال اجتماع الظواهر على تقدير كون النار ليست علة ضعيف جداً، وهذا في المقابل يقوى أن تكون النار هي العلة.
إلى هنا انتهينا من المرحلة الأولى من المرحلتين اللتين بيناهما فيما سبق وهي مرحلة الموضوعية للمذهب الذاتي.
الخطوة الخامسة: وهي المرحلة الذاتية للمذهب الذاتي.
فالباحث إذا وجد أنّ احتمال كون العلة هي النار قوي جداً واحتمال أن تكون هنالك علة أخرى ضعيف جداً سيقوم بإلغاء هذا الاحتمال فيحصل لنا اليقين والقطع بأنّ العلة هي النار.
أما النقطة الثانية:
وهي في ذكر المثال الذي ذكره السيد الشهيد رحمه الله، وهو:
أنه لو جاءتك رسالة من شخص، ورأيت مكتوب عليها أنها من أخيك فلان، ثم فتحت الرسالة فوجدت نفس الخط الذي يكتب به أخوك، وكذلك وجدت نفس الأخطاء النحوية التي يخطأ فيها، وأيضاً نفس الأفكار والمعتقدات والنصائح التي يعتقد بها ودائماً ينصحك بها، ثم انبعثت من هذه الرسالة نفس رائحة العطر الذي يتعطر به.
هنا سيواجه المرسل إليه مجموعة من الظواهر، وهذه هي الخطوة الأولى. 
ثم سيحاول تفسير اجتماع هذه الظواهر، فيفرض فرضية وهي أن تكون الرسالة فعلاً من أخيه، وهذه هي الخطوة الثانية.
ثم إنه لو سلمنا أنّ هذه الرسالة ليست من أخيه، ستكون قيمة احتمال اجتماع كل هذه الظواهر المتقدمة في المقابل ضعيف جداً، وهذه هي الخطوة الثالثة.
ثم الوصول من الاحتمال إلى الاطمئنان بالفرضية وهي كون الرسالة من أخيه، وهذه هي الخطوة الرابعة.
ثم عدم الاحتفاظ بالقيمة الاحتمالية الضعيفة، وإسقاطها وجداناً، وحصول القطع واليقين بكون الرسالة من أخيه، وهذه هي الخطوة الخامسة.
أما النقطة الثالثة:
وهي تطبيق الخطوات الخمس المتقدمة على معرفة الله تعالى، وهي كالتالي:
الخطوة الأولى: ملاحظة مجموعة من الظواهر في الكون، وذكر السيد الشهيد بعض الظواهر من ضمنها وضع الكواكب، وحركتها،والمسافات التي بينها وكيفية تحركها، ومقدار ما يصل إلى الأرض من شعاع الشمس، وتركيبة الأرض وتكوينها، ونسبة ما في الهواء من عناصر، والتبادل الوظيفي بين الكائنات في عملية الشهيق والزفير، وإلى غير ذلك، وجميع هذه الظواهر تصب في انسجام الوضع المعيشي للإنسان على هذا الكون.
الخطوة الثانية: تفسيرها بفرضية وهي كما قالها السيد الشهيد أنّ هناك فاعل عالم لديه قصد وحكمة، فهو الذي أوجدها وجعلها متناسقة بهذه الكيفية الدقيقة التي يعجز الذهن البشري عن الإحاطة بجميع أسرارها.
الخطوة الثالثة: لو فرضنا أن الفرضية السابقة غير صحيحة، فما قيمة احتمال اجتماع هذه الظواهر؟ من الواضح أن تكون النسبة ضعيفة جداً من احتمال أن تكون الرسالة في المثال السابق من غير أخيه، بل كما يقول بعض الباحثين قيمة الاحتمال سوف تكون أضعف من نسبة احتمال أن تكون موسوعة من ألف مجلد في جميع علوم البشر في الطب والكيمياء ودقيقة جداً حصلت بسبب ضرب أعمى على آلة كاتبة.
الخطوة الرابعة: وهي أنّ هذه الظواهر دليل قاطع على وجود فاعل لديه إدراك وشعور وحكمة، أو هذه الظواهر دلائل القصد كما عبّر السيد كاظم الحائري (حفظه الله) في أصول العقائد .
الخطوة الخامسة: وهي الخطوة المرتبطة بالمرحلة الذاتية من المذهب الذاتي، فالذهن البشري إذا وجد أنّ احتمال صدور هذه الظواهر من المادة الفاقدة للشعور ضعيف جداً حينئذ سيلغي هذا الاحتمال، ويحصل لديه القطع بوجود فاعل مدرك شاعر وهو الله تعالى.
هذا ملخص ما أفاده المفكر الكبير الصدر (رحمه الله) في إثبات وجود الله بالمذهب الذاتي المعتمد على حساب الاحتمالات الرياضي ، أرجو أن يجد فيه السائل بغيته ، والحمد لله رب العالمين .

No comments:

Post a Comment