Thursday, May 21, 2015

استحباب تلبية دعوة المؤمن في الصوم المستحب

كثر السؤال في الأيام الأخيرة عن استحباب تلبية دعوة المؤمن في الصوم المستحب و حكم إكمال الصوم ، والذي يظهر من مراجعة الفتاوى و ما سمعته من بعض الموثوقين في مكتب استفتاء سماحة آية الله العظمى السيد السيستاني (دام ظله ) الأمور التالية : 
الأمر الأول : يستحب تلبية دعوة المؤمن والأكل من زاده بشكل عام ، وحال الصوم المستحب بشكل خاص ، وفي ذلك ثواب عظيم ، فقد روي عن رسول الله (صلى الله عليه واله) انه قال : " من أعجز العجز رجل دعاه أخوه إلى طعام فتركه (من غير علة) " وعن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: " قال رسول الله صلى الله عليه واله: اوصي الشاهد من امتي والغائب أن يجيب دعوة المسلم ولو على خمسة أميال، فان ذلك من الدين "بحار الأنوار - العلامة المجلسي - (ج 72 / ص 448)
و في الكافي عن أبي عبدالله (عليه السلام ) قال: إفطارك لاخيك المؤمن أفضل من صيامك تطوعا .
و عن أبي جعفر (عليه السلام ) قال: من نوى الصوم ثم دخل على أخيه فسأله أن يفطر عنده فليفطر وليدخل عليه السرور فإنه يحتسب له بذلك اليوم عشرة أيام وهو قول الله عزوجل " من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها " .
و عن جميل بن دراج قال: قال أبوعبدالله (عليه السلام): من دخل على أخيه وهو صائم فأفطر عنده ولم يعلمه بصومه فيمن عليه كتب الله له صوم سنة.
و عن صالح ابن عقبة قال: دخلت على جميل بن دراج وبين يديه خوان عليه غسانية يأكل منها فقال: ادن فكل ; فقلت: إني صائم فتركني حتى إذا إكلها فلم يبق منها إلا اليسير عزم علي ألا أفطرت، فقلت له: الا كان هذا قبل الساعة ، فقال: أردت بذلك أدبك ثم قال: سمعت أبا عبدالله (عليه السلام ) يقول أيما رجل مؤمن دخل على أخيه وهو صائم فسأله الاكل فلم يخبره بصيامه ليمن عليه بإفطار كتب الله جل ثناؤه له بذلك اليوم صيام سنة.
و عن علي بن حديد قال: قلت لابي الحسن الماضي(عليه السلام ): أدخل على القوم وهم يأكلون وقد صليت العصر وأنا صائم فيقولون: أفطر؟ فقال: أفطر فإنه أفضل.
و عن الحسن بن إبراهيم بن سفيان، عن داود الرقي قال: سمعت أباعبدالله (عليه السلام ) يقول: لافطارك في منزل أخيك المسلم أفضل من صيامك سبعين ضعفا أو تسعين ضعفا.
الأمر الثاني : هو أن المقصود بالدعوة ليس ما هو متعارف من تقديم الشاي أو إعطاء الحلوى ونحو ذلك بغرض كسر الصوم ، وتحصيل ثواب إفطار الصائم ، وإنما المراد الدعوة الجادة بغرض الإطعام وان كان الطعام قليلا ، ولا يشترط علم الداعي بالصوم .
فقد جاء في بعض أجوبة مكتب سماحة السيد (حفظه الله) : (يستحب الاجابة اذا كانت دعوة جادة لا ما اعتاده الناس من تقديم حلوي أو شاي للافطار).
الأمر الثاني : يختص استحباب التلبية من قبل الصائم الذي هو أفضل من إكمال الصوم عند سماحة السيد ( حفظه الله ) بما اذا كان في تلبية الدعوة إدخال للسرور على المؤمن ، وهذا ظاهر من عدة استفتاءات منها: (السؤال: إذا كنت صائماً صوماً مستحباً ودُعيت للاكل ، فما هوالأفضل إكمال الصوم ورفض الدعوة أم اجابتها والافطار ؟ الجواب: إذا كان يدخل السرور علي صاحب الدعوة المؤمن بالأكل من طعامه فالأفضل الاجابة).
الأمر الثالث : للدعوة واستجابتها موضوعية في افضلية الافطار ، وليس المدار مدار ادخال السرور ، فلا يشمل الحكم الأكل مع العيال أو الأقارب و غيرهم من المؤمنين فيما لو كان هو الداعي لهم أو كل واحد يأكل على حسابه أو على حساب الآخر مع احراز الرضا وان كان في ذلك سرورهم .
فقد جاء في بعض الاستفتاءات ( يستحب للصائم تطوعاً قطع الصوم إذا دعاه اخوه المؤمن الى الطعام ).
الأمر الرابع : يختص الحكم بأفضلية الافطار على الاستمرار في الصوم بما إذا كان الداعي مؤمنا مواليا ، ففي استفتاء عن شمول الحكم لغير المؤمن قال مكتب سماحة السيد ( حفظه الله) :
(يستحب للصائم تطوعاً قطع الصوم إذا دعاه اخوه المؤمن الى الطعام). 
الأمر الخامس : يشمل الحكم دعوة الزوجة للزوج ولو تكررت يوميا ما دام ذلك يدخل السرور على قلبها ، ولكن هذا فيما اذا كانت تدعوه إلى طعام من مالها لا ما يبذله الزوج من ماله ويضعه في الدار ، ويكفي ان يبذل لها نفقتها ، وبعد تملكها لما بذل تقوم بدعوته الى الطعام دعوة جادة كما تقدم .
ففي بعض الاستفتاءات : (يستحب للصائم تطوعاً قطع الصوم إذا دعاه اخوه المؤمن الى الطعام بل قيل بكراهته حينئذٍ ولا يختلف في الداعي بين كونه زوجته او غيرها).
الأمر السادس : لا يتحول الصوم إلى مكرره بعد دعوة المؤمن فهو على استحبابه ومقدار مافيه من الثواب والأجر ، نعم الافطار بعد الدعوة أفضل منه ، ففي بعض الاستفتاءات : (لا يكره البقاء علي الصوم ولكن يستحب الاجابة اذا كانت دعوة جادة لا ما اعتاده الناس من تقديم حلوي او شاي للافطار).
الأمر السابع : المتعارف بين الناس أن من أجاب دعوة أخيه المؤمن كُتب له صوم ذلك اليوم وثواب تلبية دعوة المؤمن ، ولم اقف على ذلك في الروايات و الفتاوى ، وإنما الموجود هو :
١- افضلية الافطار .
٢- صيام سنة .
٣- صيام عشرة ايام .
٤- سبعون او تسعون ضعفا .
ولعل المراد من المتعارف تحصيل ثواب صوم اليوم وزيادة.

حيدر السندي

Wednesday, May 13, 2015

طلاب العلوم الدينية والمخارج الشرعية

السؤال : ماهو تعريف المخرج الشرعي ؟ فقد اتهم البعض طلاب العلم بانهم يتلاعبون في الدين من خلال ما يسمى بالمخارج الشرعية !
الجواب : بِسْم الله الرحمن الرحيم 
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين :
حيث ان مراد السائل معرفة العناوين التي تسوِّغ تغير الحكم الشرعي بعد ثبوته ، فلابد اولا من تمهيد مقدمة بأسلوب مبسط لتتضح الفكرة :

المقدمة : الأحكام الشرعية تابعة للعناوين التي أخذت فيها بنحو اذا تغيرت تلك العناوين تتغير الأحكام ، وتسمى تلك العناوين موضوعات تارة و قيود أخرى ، و يمكن أن نمثل لذلك بحرمة الاكل في شهر رمضان على الصائم فإنها لا تكون فعلية الا اذا :
١- تحقق الموضوع وهو نهار شهر رمضان .
٢- و تحقق الشرط وهو البلوغ والحضر ( عدم السفرالموجب للقصر ) وسائر الشروط .
ثم ان المكلف لا يكون عاصيا بعد فعلية حرمة الاكل الا اذا حقق متعلق النهي وهو ( الاكل ) واما اذا حقق شيئا آخر كالتنفس ، فلا يعتبر عاصيا للنهي .
كما إن هناك عناوين ثانية ترد على الفعل وتوجب تغير حكمه مثل حرمة خروج المرأة من الدار بدون إذن الزوج فان هذا الخروج قد يكون مشروطا على الزوج في عقد النكاح ، فيجوز لها الخروج حينئذ بدون إذنه وذلك لورود عنوان ثانوي له حكم غير الحكم الثابت بالعنوان الأولي وهو عنوان الشرط ، والعناوين الثانوية كثيرة جدا .
اذا اتضحت هذه المقدمة ناتي الى جواب السؤال فنقول :
اذا تحققت جميع العناوين التي اخذها الشارع المقدس في الحكم الإلزامي ولم يكن هنالك عنوان ثانوي موجبا لتبدل الحكم ، فلا يجوز مخالفته بترك متعلق الامر او ارتكاب العنوان المتعلق به النهي ، نعم يجوز ذلك اذا تغير موضوع الحكم أو انتفى قيد من قيوده او تعنون بعنوان ثانوي مسوغ للمخالفة ، أو كان ما فعله المكلف لا ينطبق عليه متعلق النهي ، ويمكن ان نمثل لذلك بالامثلة التالية:
المثال الاول : تبدل المؤمن من عادل إلى فاسق متجاهر بالمعصية ، فانه يوجب ارتفاع حرمة غيبته لتبدل الموضوع فان موضوع حرمة الغيبة هو المؤمن غير الفاسق المتجاهر بالمعصية. 
المثال الثاني : طرو الحيض على المرأة في نهار شهر رمضان ، فإنه يوجب تبدل الحكم وارتفاع وجوب الصوم الأدائي ، لان من شروط وجوبه الطهارة من الحيض والنفاس وهذا الشرط منتفي.
المثال الثالث: أن يكون في الوضوء ضرر على المكلف ، فانه يوجب تبدل وظيفة المكلف من الطهارة المائية الى الترابية لعروض عنوان ثانوي على الوضوء يوجب ارتفاع حكمه .
المثال الرابع : ان يصل الى الجوف مع عدم صدق الاكل ما لو دخل في جوف الصائم عن طريق الحلق لأوجب الافطار ، كالمغذي عند بعض الاعلام ، فانه مع عدم صدق الاكل لا يكون مفطرا ، لان المفطر هو الاكل لا وجود المطعون في الجوف .
وعليه : اذا تمكن المكلف من التصرف في موضوعات الأحكام وقيودها او ان يعنونها بعنوان ثانوي موجب لرفع حكمها او ان لا يحقق العنوان الذي تعلق به النهي فهو بهذا يكون قادرًا على عدم الوقوع في مخالفة الحكم الشرعي اما لانه ارتفع لارتفاع موضوعه او لانه فعل شيئا آخر ليس متعلق النهي وهذا هو المخرج الشرعي الذي يستند الى مواد دستور الشرع نفسه ولا يصطدم معها ، فمثلا الحاضر في نهار شهر رمضان لا يجوز له الافطار مع تحقق جميع شروط الوجوب ، ولكن حيث ان الشارع أجاز الافطار للمسافر ولم يحرم على الحاضر في شهر مصان السفر ، فللمكلف ان يسافر ويفطر في سفره ، لانه بدل قيد الحكم وشرطه .
وكذلك من يريد أن يصل الى نتيجة ( الربا) وهي القرض مع الفائدة، فانه بامكانه ان يبدل المعاملة الى بيع او هدية بشرط القرض - كما يرى بعض الاعلام - ويتخلص من الحرمة ، وذلك لان عنوان متعلق الحرمة الربا وهو لم يرتكبه وإنما فعل البيع ، والبيع جائز وكذلك الهدية .
وكذلك من علم بانه سوف يملك اموالا سيحول عليها الحول ويجب فيها الخمس ، فانه بامكانه ان يقترض ويشتري أرضا مواتا ثم اذا ملك الأموال سدد بها القرض قبل الحول ولا خمس عليه اذا حال الحول عند بعض الاعلام ، وذلك لان موضوع الوجوب هو الربح الباقي الى الحول ، وهو لم يبق الربح شرعا وإنما صرفه في مؤنته وهي سدادالدين .
ومثلهم من أراد الحج الواجب وكان عليه دين يمنع من تحقق الاستطاعة كما هو راي بعض الاعلام ، فانه يمكنه ان يتوصل الى اشغال ذمته بالحج الواجب من خلال البذل ، فيكون مستطيعا بالاستطاعة البذلية ، وبهذا يكون قد استفاد من نفس نظام التشريع الاسلامي وسار وفق ضوابطه لرفع الحكم او وضعه ، وليس هذا من التلاعب في شيء .
حيدر السندي

طهارة السيدة حميدة المصفاة أم الكاظم (عليهما السلام)

بقلم : سماحة الشيح حيدر السندي (حفظه الله)
السؤال : كيف نرفع الإشكال عن الرواية التي فيها أن حميدة المصفاة (عليها السلام) أم الإمام الكاظم (صلوات الله وسلامه عليه) كان النخاس قبل انتقالها إلى الإمام الصادق ( صلوات الله وسلامه عليه ) يقعد منها مقاعد الرجال من المرأة؟ نرجو منكم الإجابة ، فقد صار هذا سبباً للتشنيع على الإمامية من بعض المخالفين. 
الجواب : في البداية أنقل نص الرواية ثم أعلق بذكر بعض الأمور ، والرواية كما في الكافي ج 1 ص 488: عن الحسين بن محمد الأشعري ، عن معلى بن محمد ، عن علي بن السندي القمي قال : حدثنا عيسى بن عبد الرحمن ، عن أبيه قال : دخل ابن عكاشة بن محصن الأسدي على أبي جعفر وكان أبو عبد الله (عليه السلام) قائما عنده فقدم إليه عنبا ، فقال : حبة حبة يأكله الشيخ الكبير والصبي الصغير وثلاثة وأربعة يأكله من يظن أنه لا يشبع وكله حبتين حبتين ، فإنه يستحب فقال لأبي جعفر (عليه السلام) : لأي شئ لا تزوج أبا عبد الله فقد أدرك التزويج ؟ قال وبين يديه صرة مختومة فقال : أما إنه سيجيئ نخاس من أهل بربر فينزل دار ميمون ، فنشتري له بهذه الصرة جارية ، قال : فأتى لذلك ما أتى ، فدخلنا يوما على أبي جعفر (عليه السلام) فقال : ألا أخبركم عن النخاس الذي ذكرته لكم قد قدم ، فاذهبوا فاشتروا بهذه الصرة منه جارية ، قال : فأتينا النخاس فقال : قد بعت ما كان عندي إلا جاريتين مريضتين إحداهما أمثل من الأخرى ، قلنا : فأخرجهما حتى ننظر إليهما فأخرجهما ، فقلنا : بكم تبيعنا هذه المتماثلة قال : بسبعين دينارا قلنا أحسن قال : لا أنقص من سبعين دينار ، قلنا له نشتريها منك بهذه الصرة ما بلغت ولا ندري ما فيها وكان عنده رجل أبيض الرأس واللحية قال : فكوا وزنوا ، فقال النخاس : لا تفكوا فإنها إن نقصت حبة من سبعين دينارا لم أبايعكم فقال الشيخ : ادنوا ، فدنونا وفككنا الخاتم ووزنا الدنانير فإذا هي سبعون دينارا لا تزيد ولا تنقص فأخذنا الجارية فأدخلناها على أبي جعفر (عليه السلام) وجعفر قائم عنده فأخبرنا أبا جعفر بما كان ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال لها : ما اسمك ؟ قالت : حميدة ، فقال حميدة في الدنيا ، محمودة في الآخرة ، أخبريني عنك أبكر أنت أم ثيب ؟ قالت : بكر قال : وكيف ولا يقع في أيدي النخاسين شئ إلا أفسدوه ، فقالت : قد كان يجيئني فيقعد مني مقعد الرجل من المرأة فيسلط الله عليه رجلا أبيض الرأس واللحية فلا يزال يلطمه حتى يقوم عني ، ففعل بي مرارا وفعل الشيخ به مرارا فقال : يا جعفر خذها إليك فولدت خير أهل الأرض موسى بن جعفر (عليه السلام) .
وفي مقام التعليق أذكر أموراً :
الأمر الأول : الرواية ليست نقية السند ، فهي خبر واحد ، وفي حجية خبر الواحد في ثبوت مضمونها كلام بين الأعلام ، على أن الحجية للخبر الموثوق به ، ولا يوثق بهذا الخبر لجهات في سنده منها :
1ـ معلى بن محمد البصري ، وقد قال فيه النجاشي : (مضطرب الحديث والمذهب ) وقال فيه ابن الغضائري : (يعرف حديثه وينكر ويروي عن الضعفاء ويجوز أن يخرج شاهداً) ، وقيل بوثاقته لوقوعه في كامل الزيارات وتفسير علي بن إبراهيم، وفي كفاية ذلك في التوثيق بحث. 
2ـ علي بن السندي ، وفي وثاقته استناداً إلى قول الكشي : ( نصر بن الصباح قال : علي بن إسماعيل ثقة وهو علي بن السندي لقب إسماعيل بالسندي) أو رواية محمد بن أحمد بن يحيى عنه مع عدم استثناء ابن الوليد إياه كلام ، وذهب السيد الخوئي (رحمه الله) إلى عدم ثبوت الوثاقة وفي تنقيح المقال للسيد الأبطحي :علي بن السندي ، فلم يثبت وثاقته إلا بأمور لا تخلو عن النظر . ج 2 ص21.
3ـ عيسى بن عبد الرحمان لم يوثق .
الأمر الثاني :لا خلاف عند الإمامة في عظم مقام أمهات المعصومين (عليهم السلام) فهن في أعلى مراتب النزاهة والتقوى والإخلاص ، والذي تدل عليه الروايات أن الله أختارهن وعاءاً لأوليائه ، ولم يكنَّ أمهات للمعصومين (عليهم السلام) اتفاقاً . فقد روى الصدوق بسنده عن هشام بن أحمد ، قال : قال أبو الحسن الأول ( عليه السلام ) : هل علمت أحدا من أهل المغرب قدم ؟ قلت : لا ، فقال ( عليه السلام ) : بلى ، قد قدم رجل أحمر ، فانطلق بنا ، فركب وركبنا معه حتى انتهينا إلى الرجل ، فإذا رجل من أهل المغرب معه رقيق ، فقال له : اعرض علينا ، فعرض علينا تسع جوار كل ذلك يقول أبو الحسن ( عليه السلام ) : لا حاجة لي فيها ، ثم قال له : اعرض علينا ، قال : ما عندي شئ ، فقال له : بلى اعرض علينا ، قال : لا والله ، ما عندي إلا جارية مريضة ، فقال له : ما عليك أن تعرضها ، فأبى عليه ، ثم انصرف ( عليه السلام ) ، ثم أرسلني من الغد إليه ، فقال لي : قل له : كم غايتك فيها ؟ فإذا قال : كذا وكذا فقل : قد أخذتها ، فأتيته ، فقال : ما أريد أن أنقصها من كذا ، فقلت : قد أخذتها ، وهو لك ، فقال : هي لك ، ولكن من الرجل الذي كان معك بالأمس ؟ فقلت : رجل من بني هاشم ، فقال : من أي بني هاشم ؟ فقلت : من نقبائهم ، فقال : أريد أكثر منه ، فقلت : ما عندي أكثر من هذا ، فقال : أخبرك عن هذه الوصيفة ، إني اشتريتها من أقصى بلاد المغرب ، فلقيتني امرأة من أهل الكتاب فقالت : ما هذه الوصيفة معك ؟ فقلت : اشتريتها لنفسي ، فقالت : ما ينبغي أن تكون هذه الوصيفة عند مثلك ، إن هذه الجارية ينبغي أن تكون عند خير أهل الأرض ، فلا تلبث عنده إلا قليلا حتى تلد منه غلاما يدين له شرق الأرض وغربها ، قال : فأتيته
بها ، فلم تلبث عنده إلا قليلا حتى ولدت له عليا ( عليه السلام ) .
ونقل المحدث القمي أنه الكاظم ( عليه السلام ) لما ابتاع أم الإمام الرضا ( عليه السلام) جمع قوما من أصحابه ثم قال : والله ما اشتريت هذه الأمة إلا بأمر الله )
روى الشيخ الطوسي بسنده عن محمد بن بحير بن سهل الشيباني أنه قال : قال بشر بن سليمان النخاس وهو من ولد أبي أيوب الأنصاري أحد موالي أبي الحسن وأبي محمد وجارهما بسر من رأى : أتاني كافور الخادم . فقال : مولانا أبو الحسن علي بن محمد العسكري يدعوك إليه ، فأتيته ، فلما جلست بين يديه قال لي : يا بشر إنك من ولد الأنصار ، وهذه الموالاة لم تزل فيكم يرثها خلف عن سلف ، وأنتم ثقاتنا أهل البيت ، وإني مزكيك ومشرفك بفضيلة تسبق بها الشيعة في الموالاة بسر أطلعك عليه ، وأنفذك في ابتياع أمة ، فكتب كتابا لطيفا بخط رومي ولغة رومية ، وطبع عليه خاتمه ، وأخرج شقيقة صفراء فيها مائتان وعشرون دينارا . فقال : خذها ، وتوجه بها إلى بغداد ، واحضر معبر الفرات ضحوة يوم كذا ، فإذا وصلت إلى جانبك زواريق السبايا وترى الجواري فيها ، ستجد طوايف المبتاعين من وكلاء قواد بني العباس ، وشرذمة من فتيان العرب ، فإذا رأيت ذلك فأشرف من البعد على المسمى عمر بن يزيد النخاس عامة نهارك ، إلى أن تبرز للمبتاعين جارية صفتها كذا وكذا ، لابسة حريرين صفيقين ، تمتنع من العرض ولمس المعترض ، والانقياد لمن يحاول لمسها ، وتسمع صرخة رومية من وراء ستر رقيق ، فاعلم أنها تقول : وا هتك ستراه . فيقول بعض المبتاعين : علي ثلاثمائة دينار فقد زادني العفاف فيها رغبة ، فتقول بالعربية : لو برزت في زي سليمان بن داود ، وعلى شبه
ملكه ما بدت لي فيك رغبة ، فاشفق على مالك ، فيقول النخاس : فما الحيلة ؟ ! ولا بد من بيعك ، فتقول الجارية : وما العجلة ؟ ولا بد من اختيار مبتاع يسكن قلبي إليه وإلى وفائه وأمانته ، فعند ذلك قم إلى عمر بن يزيد النخاس ، وقل له : إن معك كتابا ملصقا لبعض الأشراف كتبه بلغة رومية وخط رومي ، ووصف فيه كرمه ، ووقاره ، ونبله ، وسخاءه ، فناولها لتتأمل منه أخلاق صاحبه ، فإن مالت إليه ورضيته فأنا وكيله في ابتياعها منك .
قال بشر بن سليمان : فامتثلت جميع ما حده لي مولاي أبو الحسن ( عليه السلام ) في أمر الجارية ، فلما نظرت في الكتاب بكت بكاء شديدا وقالت لعمر بن يزيد : بعني من صاحب هذا الكتاب وحلفت بالمحرجة والمغلظة إنه متى امتنع من بيعها منه قتلت نفسها ، فما زلت أشاحه في ثمنها حتى استقر الأمر فيه على مقدار ما كان أصحبنيه مولاي ( عليه السلام ) من الدنانير فاستوفاه ، وتسلمت الجارية ضاحكة مستبشرة ، وانصرفت بها إلى الحجيرة التي كنت آوي إليها ببغداد ، فما أخذها القرار حتى أخرجت كتاب مولانا ( عليه السلام ) من جيبها وهي تلثمه وتطبقه على جفنها وتضعه على خدها وتمسحه على بدنها . فقلت تعجبا منها : تلثمين كتابا لا تعرفين صاحبه ؟ ! فقالت : أيها العاجز الضعيف المعرفة بمحل أولاد الأنبياء ، أعرني سمعك وفرغ لي قلبك ، أنا مليكة بنت يشوعا بن قيصر ملك الروم ، وأمي من ولد الحواريين ، تنسب إلى وصي المسيح شمعون أنبئك العجب .
وإن السيدة الطاهرة حميدة المصفاة أم مولانا الكاظم (عليه السلام) كسائر أمهات الأمة في العفة والطهارة وعلو المنزلة و الدرجة في تعلق الاختيار الإلهي بها لتكون من معدات ظهور أنوار المعصومين (عليهم السلام ) في هذه النشأة ، وهو ما تدل عليه رواية الكافي بصورة جلية فقد جاء فيها أن الإمام الباقر (عليه السلام) قال : (أما إنه سيجيئ نخاس من أهل بربر فينزل دار ميمون ، فنشتري له بهذه الصرة جارية ، قال : فأتى لذلك ما أتى ، فدخلنا يوما على أبي جعفر (عليه السلام) فقال : ألا أخبركم عن النخاس الذي ذكرته لكم قد قدم ، فاذهبوا فاشتروا بهذه الصرة منه جارية ، قال : فأتينا النخاس فقال : قد بعت ما كان عندي إلا جاريتين مريضتين إحداهما أمثل من الأخرى ، قلنا : فأخرجهما حتى ننظر إليهما فأخرجهما ، فقلنا : بكم تبيعنا هذه المتماثلة قال : بسبعين دينارا قلنا أحسن قال: لا أنقص من سبعين دينار ، قلنا له نشتريها منك بهذه الصرة ما بلغت ولا ندري ما فيها وكان عنده رجل أبيض الرأس واللحية قال : فكوا وزنوا ، فقال النخاس : لا تفكوا فإنها إن نقصت حبة من سبعين دينارا لم أبايعكم فقال الشيخ : ادنوا ، فدنونا وفككنا الخاتم ووزنا الدنانير فإذا هي سبعون دينارا لا تزيد ولا تنقص فأخذنا الجارية فأدخلناها على أبي جعفر (عليه السلام) وجعفر قائم عنده فأخبرنا أبا جعفر بما كان ، فحمد الله وأثنى عليه) .
يقول الإمام الصادق (عليه السلام) في مقام بيان فضلها وعظم قدرها frown emoticon حميدة مصفاة من الأدناس ، كسبيكة الذهب ، ما زالت الأملاك تحرسها حتى أديت إلي ، كرامة من الله لي والحجة من بعدي ).
وهذا الحفظ الإلهي هو الذي دل عليه ذيل رواية الكافي فقل قال الإمام الباقي ( عليه السلام ) في وصفها : (حميدة في الدنيا ، محمودة في الآخرة) ثم سألها : ( أخبريني عنك أبكر أنت أم ثيب ؟ ) فقالت : بكر قال : وكيف ولا يقع في أيدي النخاسين شئ إلا أفسدوه ، فقالت : قد كان يجيئني فيقعد مني مقعد الرجل من المرأة فيسلط الله عليه رجلا أبيض الرأس واللحية فلا يزال يلطمه حتى يقوم عني ، ففعل بي مرارا وفعل الشيخ به مرارا).
بل إن في بعض الروايات ما يدل على حفظ أمهات الأئمة (عليهم السلام) حتى عن بعض الأمور الطبيعية التي تراها بنات جنسها كالحيض والنفاس ، فقد نقل الشيخ الصدوق في كمال الدين ص 433: عن محمد بن عثمان العمري - قدس الله روحه - أنه قال : ولد السيد (عليه السلام) مختونا ، وسمعت حكيمة تقول : لم ير بأمه دم في نفاسها ، وهكذا سبيل أمهات الأئمة (عليهم السلام) .
في تاج المواليد للشيخ الطوسي ص 20 : وقد لقبها النبي (صلى الله عليه وآله) وسلم سيدة نساء العالمين وقد دعيها أيضا بتولا ، فسئل (صلوات الله عليه) عن معناه فقال : هي المرأة التي لم تحض ولم تر حمرة قط وان الحيض مكروه في بنات الأنبياء (عليهم السلام) وقد روى عنهم (عليهم السلام) أن سبيل أمهات الأئمة (عليهم السلام) سبيل فاطمة (عليها السلام) في ارتفاع الحيض عنهن . وهذا مما تميزت به أمها أئمتنا (عليهم السلام) من سائر النساء لأنه لم يصح في واحدة من جميع النساء حصول الولادة مع ارتفاع الحيض عنها سواهن تخصيصا لهن لمكان أولادهن المعصومين (صلوات الله عليهم أجمعين) .
الأمر الثالث : هو أن من عقيدتنا نحن الشيعة عصمة النبي و الإمام (عليهما السلام) والعصمة بمقتضى دليل العقل تعني خلوص النبي والمعصوم ( عليهما السلام) من نواقض الغرض من جعله نبياً أو إماماً ، ومنها ما يوجب مهانته وحقارة منزلته و نفرة الناس منه الموجبة لعدم إتباعه للهدي الذي يدعو إليه ، وإن وضاعة النسب وعهر الأمهات من أعظم المنفرات التي ننزه المعصومين عنها ، ولهذا ورد مستفيضاً أنهم كانوا (عليهم السلام ) في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهرة .
وليس مما نعتقد عصمة المعصومين عن أسر أمهاتهم ، وكونهن ملكاً بحسب الظاهر لغير المعصوم ، ثم جريان بعض الأمور الجائزة للمالك شرعاً كالنظر واللمس ، بل وغير الجائز إذا كان واقعاً بغير الاختيار إلا ما دل العقل و النقل على أن الله تعالى حفظهن منه كرامة لهن ولأولادهن كالوطء و نحوه .
و ما في الرواية ـ وهو فقرة (قد كان يجيئني فيقعد مني مقعد الرجل من المرأة فيسلط الله عليه رجلا أبيض الرأس واللحية فلا يزال يلطمه حتى يقوم عني ، ففعل بي مرارا وفعل الشيخ به مرارا) ـ ليس إلا تصرف من مالك يجوز له بحسب ظاهر الشرع ، إلا أن الله تعالى مالك الملك منعه تكويناً من أن يترتب عليه الوطء تعظيماً للمعصوم وتكريماً لأمه المعظمة (عليهما السلام) فأي قدح وتنقيص في ذلك كما يزعم المخالف!!
الأمر الرابع : لا يحق للمخالف أن يتهمنا استناداً إلى رواية ضعيفة ـ كما تبين سابقاً ـ بأننا ننتقص من قدر أمهات الأئمة (علهم السلام) ، ولو كان لأحد أن يشنع فهو للشيعي لما ورد في أصح الكتب عند المخالفين فقد أخرج مسلم في كتابه برقم الحديث: 4378 : وحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ ، أَخْبَرَنِي جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ ، عَنْ أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : " لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَام قَطُّ ، إِلَّا ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ ، ثِنْتَيْنِ فِي ذَاتِ اللَّهِ ، قَوْلُهُ : إِنِّي سَقِيمٌ سورة الصافات آية 89 ، وَقَوْلُهُ : بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا سورة الأنبياء آية 63 ، وَوَاحِدَةٌ فِي شَأْنِ سَارَةَ ، فَإِنَّهُ قَدِمَ أَرْضَ جَبَّارٍ ، وَمَعَهُ سَارَةُ ، وَكَانَتْ أَحْسَنَ النَّاسِ ، فَقَالَ لَهَا : إِنَّ هَذَا الْجَبَّارَ إِنْ يَعْلَمْ أَنَّكِ امْرَأَتِي ، يَغْلِبْنِي عَلَيْكِ ، فَإِنْ سَأَلَكِ ، فَأَخْبِرِيهِ أَنَّكِ أُخْتِي ، فَإِنَّكِ أُخْتِي فِي الْإِسْلَامِ ، فَإِنِّي لَا أَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ مُسْلِمًا غَيْرِي وَغَيْرَكِ ، فَلَمَّا دَخَلَ أَرْضَهُ ، رَآهَا بَعْضُ أَهْلِ الْجَبَّارِ أَتَاهُ ، فَقَالَ لَهُ : لَقَدْ قَدِمَ أَرْضَكَ امْرَأَةٌ ، لَا يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تَكُونَ إِلَّا لَكَ ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا ، فَأُتِيَ بِهَا ، فَقَامَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْه السَّلَام إِلَى الصَّلَاةِ ، فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ ، لَمْ يَتَمَالَكْ أَنْ بَسَطَ يَدَهُ إِلَيْهَا ، فَقُبِضَتْ يَدُهُ قَبْضَةً شَدِيدَةً ، فَقَالَ لَهَا : ادْعِي اللَّهَ أَنْ يُطْلِقَ يَدِي ، وَلَا أَضُرُّكِ ، فَفَعَلَتْ ، فَعَادَ ، فَقُبِضَتْ أَشَدَّ مِنَ الْقَبْضَةِ الْأُولَى ، فَقَالَ لَهَا مِثْلَ ذَلِكَ ، فَفَعَلَتْ ، فَعَادَ ، فَقُبِضَتْ أَشَدَّ مِنَ الْقَبْضَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ ، فَقَالَ : ادْعِي اللَّهَ أَنْ يُطْلِقَ يَدِي ، فَلَكِ اللَّهَ أَنْ لَا أَضُرَّكِ ، فَفَعَلَتْ ، وَأُطْلِقَتْ يَدُهُ ، وَدَعَا الَّذِي جَاءَ بِهَا ، فَقَالَ لَهُ : إِنَّكَ إِنَّمَا أَتَيْتَنِي بِشَيْطَانٍ ، وَلَمْ تَأْتِنِي بِإِنْسَانٍ ، فَأَخْرِجْهَا مِنْ أَرْضِي ، وَأَعْطِهَا هَاجَرَ ، قَالَ : فَأَقْبَلَتْ تَمْشِي ، فَلَمَّا رَآهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَام ، انْصَرَفَ ، فَقَالَ لَهَا : مَهْيَمْ ؟ قَالَتْ : خَيْرًا ، كَفَّ اللَّهُ يَدَ الْفَاجِرِ ، وَأَخْدَمَ خَادِمًا " ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : فَتِلْكَ أُمُّكُمْ يَا بَنِي مَاءِ السَّمَاءِ) .
فإن في هذه الرواية أن نبي الله إبراهيم ( عليه السلام) ـ حاشاه ـ كذب ولم ينفعه كذبه حيث استولى الظالم على زوجته وليس هذا جائزاً له ، ومد يده إليها مراراً طالباً ما يطلبه الرجل من المرأة وكان الله تعالى يمنعه ، فمع وجود مثل هذا في كتبهم وبسند صحيح عندهم ومع أم نبي كانت ذات بعل كذب زوجها النبي ليخلص نفسه من أن يغلبه الظالم ومع ذلك استولى عليها الظالم ومد يده اليها ، ينبغي عليهم أن يخجلوا ولا يشنعوا استناداً إلى رواية ضعيفة واردة في أم الإمام الكاظم (عليهما السلام).
والحمد لله رب العالمين

Saturday, May 9, 2015

حكمة الله و رحمته في الخلق وانحراف الأكثر

بقلم : سماحة الشيخ حيدر السندي ( حفظه الله)
بِسْم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله الذين يهدون بهداه وبعد :
فقد أرسل إلي احد الإخوة المؤمنين الرسالة التالين :
( شيخنا العزيز تحية طيبة وبعد لدي إشكال طرحه أحد الملحدين في أحد مقاطع اليوتيوب وأريد جوابا عليه ، فقد طرح تساؤلين إثنين على أحد الدعاة الإسلاميين أثناء إلقاء محاضرته الدينية ولكن وللأسف الشديد لم يقنعني جوابه فرجائي من الله أن أجد الجواب واضح وجلي من جنابكم لسماعي حول تبحركم في هذا المجال.
التساؤل الأول:
المعلوم أن الله خلق الخلق وهو العالم المطلق بهم و بأحوالهم وجميع شئونهم وهو في علمه يعلم العاصي من المطيع و كذلك يعلم أن أكثر خلقه سيدخلون النار بسبب عصيانهم ورفضهم للحق. والسؤال لماذا خلقهم وهو يعلم بظلمهم لأنفسهم وهو المحب لخلقه و لم يخلقهم ليعذبهم فالأحرى أن يتكرم عليهم بالجنة؟ أو أن لا يخلقهم لعلمه أنهم يستوجبون النار بسبب عصيانهم الذي كان يعلم به قبل خلقهم؟
التساؤل الثاني:
الله عظيم الشأن حكيم متناهي في قدرته لكن لماذا حين ضرب الأمثلة للدلالة على عظمته وعلو شأنه ضرب أمثلة بسيطة و استدل بذكر آيات من آيات خلقه بينة واضحة كاختياره للإبل و الزيتون والرمان والنخيل وهكذا رغم ما يملكه من مخلوقات دقيقه و عجيبة أكثر تعقيدا مما ذكر؟ أرجو شيخنا العزيز أن تكون استفساراتي واضحة وأبتهل إلى الله أن نستفيد من علمك؟
تحياتي السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ).
و للجواب على التساؤلين الواقعين في هذه الرسالة نتحدث في مقامين:
المقام الأول : في دفع إشكال خلق الله تعالى للناس وهو يعلم أن أغلبهم يتوجه نحو جهنم و العياذ بالله ، وأن هذا يتنافى مع الرحمة أو هو قبيح لا يليق بساحة الله تعالى ، و الكلام في دفع هذا الإشكال في نقاط:
النقطة الأولى : هي أن هذا الإشكال ليس جديدا ، وإنما هو قديم جداً وقد تعرض له ابن سينا في كتابه الشهير الإشارات حيث قال في بيان رفضه لمذهب المعتزلة القائل بأن مرتكبين الخطايا أكثر الناس ولا نجاة لهم من النار : لا يقعن عندك- أن السعادة في الآخرة نوع واحد- و لا يقعن عندك أن السعادة لا تنال أصلا- إلا بالاستكمال في العلم- و إن كان ذلك يجعل نوعها نوعا أشرف- و لا يقعن عندك أن تفاريقالخطايا باتكة لعصمة النجاة- بل إنما يهلك الهلاك السرمد ضرب‌ من الجهل- و إنما يعرض للعذاب المحدود ضرب من الرذيلة- و حد منه- و ذلك في أقل أشخاص الناس- و لا تصغ إلى من يجعل النجاة وقفا على عدد- و مصروفة عن أهل الجهل و الخطايا- صرفا إلى الأبد و استوسع رحمة الله- و ستسمع لهذا فضل بيان .الإشارات ج3 ص327 .
ومفاد هذه العبارة على ما ذكره القطب الرازي في المحاكمات: هو أن العذاب الدائم للسافل في قوتي الإدراك والعمل ، ومن يتمكن فيه الخُلق الرديء ، وهذا قسم قليل من البشر ، ويقابله الكُمّل في القوتين ، و الكُمّل في القوة النظرية دون العملية ، وهؤلاء هم أغلب البشر ، نعم القسم الأول منهم لا يعذب أصلاً وأما الثاني فيعذب قيلا ثم يذهب إلى الجنة ، وهذا ما تقتضيه رحمة الله الواسعة.
وفي كتاب الحكمة المتعالية ( الأسفار الأربعة) ج 7 ص 87 تعرض أشهر الفلاسفة الشيعة الملا صدرا لهذا الإشكال من زاوية غير زاوية شمول الرحمة الإلهية ، وهي أن الفلاسفة يزعمون أن الخير غالب في نظام خلقة الله تعالى ، وهذا يتنافى مع أن الإنسان هو أشرف الخلق و الغالب على أفراد البشر الشرور من جهة فساد القول والعمل وما يترتب عليهما من عقاب في يوم القيامة ، فقال (رحمه الله) مبيناً الإشكال : (إنكم زعمتم أن الخير في العالم كثير والشر قليل ونحن إذانظرنا في أنواع الكائنات وجدنا الإنسان اشرف الجميع وإذانظرنا إلى أكثر أفراده وجدنا الغالب عليهم الشرور لوجودأفعال قبيحة و أعمال سيئة و أخلاق وملكات رديه واعتقاداتباطله وبالجملة الغالب عليهم طاعة الشهوة والغضب بحسبالقوة العملية والجهل المركب بحسب القوة النظرية وهذانالأمران مضران في المعاد مؤلمان للنفس موجبان للشقاوة فيالعقبى مانعان عن السعادة الأخروية فيكون الشر غالبا علىهذا النوع الذي هو الثمرة القصوى والغاية العظمى لوجودهذه الأكوان وبناء عالم العناصر والأركان واما الاستمتاعبالشهوة واللهو واللعب الذي هو السعادة الدنيوية التي هيفي التحقيق شقاوة فهو مع ذلك حقير جدا بالنسبة إلى مايحرمونه من السعادة الحقيقية ويكتسبونه من نار الجحيموالعذاب الأليم ).
ثم نقل (رحمه الله) جواب الشيخ ابن سينا المتقدم وهو أن ( أحوال النفوس في الآخرة على ثلاثة أقسام:
الأول : الكاملون في القوتين ـ النظرية والعملية ـ البالغونفي تحصيل الكمالات الحكمية النظرية واقتناء الملكات الكريمةالعملية .
الثاني : المتوسطون في تحصيل ذلك وهم الأكثر والأغلبعلى تفاوت مراتبهم
في ذلك من القرب إلى الطرف الأشرف والبعد عنه إلى الأرذل.
والثالث : هم البالغون في الجهالات البسيطة والمركبةالممعنون في ردائة أخلاق فهؤلاء أقل عددا من القسم الثانيبكثير وإذا نسبتهم إلى مجموع القسمين الأولين كانوا فيغاية القلة والحقارة فلأهل الرحمة والسلامة غلبه وافره فيكلتا النشأتين .
ثم نقل البرهان المعروف ببرهان العناية لإثبات أن أغلب البشر من أهل السعادة ولو في آخر المطاف واجتياز فترة من التعذيب تصفيهم من الحالات الرديئة التي لا تناسب الجنة ودار النعم .
وحاصل هذا البرهان هو أن معرفة كمال الذات الإلهية التامة يفيد كمال الفعل لمناسبة الفعل للفاعل ، وكمال الفعل في وصول كل موجود أو أغلب الموجودات إلى ما تقتضيه طبائعها من كمالات ، وحيث أن طبيعة البشر تطلب السعادة الأبدية بمقتضى فطرتها ، فلا بد من وصول الأغلب إلى السعادة .
النقطة الثانية : هي أن لهذا الإشكال تأثيراً كبيراً على كثير من التوجهات التي سادت القرون الوسطى في أوربا ، وتسيطر على فكر الحداثيين اليوم ، وقد كان سبباً أو مساهماً في بروز عدة نظريات منها :
النظرية الأولى : أن حقيقة الهداية المطلوبة و التي يدور العقاب مدارها في إدراك الإله و الميل إليه ، وهذا ما تطلبه الفطرة ، وأما الأديان المختلفة سماوية وغير سماوية فليس الاعتقاد بأحدها مطلوبا و شرطاً في النجاة من العذاب .
النظرية الثانية : هنالك دين مطلوب غير أن جميع الأديان تمثله ، ويكفي التدين بها ، لأنها تعبيرات مختلفة نتيجة تجارب دينية خاصة تريد بيان حقيقة واحدة ، و هذا معذر لمن خالف الحق في يوم القيامة .
النظرية الثالثة : البشر غير مكلفين بعقيدة معينة ، وإنما هم خلقوا للاختلاف حتى في فكرة الإلهة ، و بالتالي جميع البشر محققون للغاية من وجودهم مهما اختلفت عقيدتهم.
النظرية الرابعة : تعدد الحق وانبساطه على جميع التوجهات ، وهذه أحدى صيغ (البوراليزم pluralism ) ، فليس الحق واحدا متجسداً في دين غاية الأمر يكفي من الدين أصل الاعتقاد بالإله ـ كما في النظرية الأولى ـ أو يكفي التدين بأي معبر عنه وإن لم يكن دقيقاً ـ كما في النظرية الثانية ـ أو البشر غير مكلفين به رأساً ـ كما في النظرية الثالثة ـ وإنما هو في نفسه متعدد فجميع الأديان حقة ومطابقة للواقع .
وجميع هذه النظريات باطلة منافية للنقل والعقل ، أما النقل فأدلة كثيرة تبين أن الدين هو الإسلام و هو الحق و الهداية و غيره الضلال ، وأن الإسلام يتحقق بعقائد خاصة ، وأن الوحي تعليم خاص يبلغه النبي كما هو وليس تجربة دينية شخصية ، وأهمية الشريعة وأحكامها في النجاة و الخاتمية وغير ذلك ، وأما من العقل فما دل على ضرورة بعثة الأنبياء وحفظ الوحي من الخطأ و استحالة واقعية المقولات المتناقضة وما أكثرها في الأديان والتوجهات الفكرية المختلفة، وقد اكتفيت بهذا المقدار من التعليق لصرف الجهد في دفع نفس الإشكال بما أراه مناسباً ومحافظاً على جميع هذه الثوابت النقلية والعقلية.
النقطة الثالثة : يمكن أن نذكر عدة أجوبة على هذا الإشكال غير الأجوبة المتقدمة .
الجواب الأول : يتكون من مقدمات :
المقدمة الأولى : هي أن العقل والدين يحكمان بقبح معاقبة الإنسان على فعل لم يصدر منه بالاختيار .
المقدمة الثانية : هي أن الله تعالى خلق البشر وأعطاهم القدرة والاختيار ، ومع اختيارهم لأفعالهم تكون الأفعال منسوبة إليهم حقيقة ، وهم الفاعلون لها .
المقدمة الثالثة : إذا خلق الله العبد مختاراً ومكنه من الفعل و بين له طريق الحق ، ثم قام العبد باختياره بفعل القبيح الموجب للعقاب ، فهنا يوجد فعلان:
1ـ فعل الله تعالى وهو الخلق و إعطاء الاختيار من أجل عمل الخير .
2ـ فعل العبد ، وهو ارتكاب القبيح . 
والأول لا قبح فيه ، فهل من القبيح أن يخلق الله الإنسان ويمن عليه بالوجود ويعطيه الاختيار ! و الثاني قبيح ويلام ويعاقب عليه العبد ، و هو لا يسند إلى الله وإنما إلى العبد ،لأنه صدر باختياره ، فالله تعالى بحسب الدقة لم صدر منه قبيح أصلاً لأنه وإن علم بأن العبد بعد التمكين سيرتكب القبيح إلا أن الله لم يمكنه لفعل القبيح ، والقبيح بعد صدوره ليس فعلاً لله.
الجواب الثاني: ويتكون من مقدمتين :
المقدمة الأولى : في حقيقة نظام الكون توجد نظريتان:
النظرية الأولى : هي التي ترى عدم وجود تربط لزومي بين الممكان ، وإنما العلاقة مباشرة بين الله وكل فرد ممكن .
النظرية الثانية : هي التي ترى وجود ترابط مبني على قانون العلية والسببة ، فالله تعالى وإن كان السبب الأول ، إلا أنه تعالى خلق الممكات وفق سلسلة أساب ومسببات ، وتغير موقع حلقة من حلاقات هذه السلسة يؤثر على الشكل العام لنظام الإمكان ، وقد يبدله من الأحسن إلى الحسن أو السيء.
والذي ينفعنا في هذا الجواب كون النظرية الثانية محتملة ولا يتوقف هذا الجواب على إثباتها .
المقدمة الثانية : هي أن عوالم الإمكان متعددة مترامية الأطرف ولا تنحصر في عالم آدم وذريته ، ولا أقل من احتمال ذلك ، ونحتمل أن في خلق الآدميين في عالمنا وفق نظام هذا العالم مخيرين ارتباطا بجميع هذه العوالم التي قد يكون بعضها في سلسة علل عالمنا أو في سلسلة ما يتفرع عليه ويتكامل منه أو يقع بعده كالبرزخ والقيامة ، بنحو لو لم يخلق هذا العالم بهذه الكيفية التي يسودها الاختيار لفسد النظام الجمعي ، ومع هذا الاحتمال لا يحكم العقل بقبح خلق الناس في هذا العالم مخيرين مع هلاك أكثرهم باختيارهم بدون جبر إلهي ما دام فيه تحقيق لمصلحة أهم وهي كمال النظام الجمعي للوجود ، وهذا يعنى أن مقتضى الحكمة والرحمة بالجميع لا ينافي خلق البشر بخيرين مع العلم بضلال الأكثر .
الجواب الثالث : وهو يتكون من مقدمتين:
المقدمة الأولى : هي أن للكثرة لحاظين:
الأول : اللحاظ الكمي .
الثاني : اللحاظ الكيفي.
و عدم الاهتمام بكثرة الكم مراعاة لكثرة الكيف قد يكون أمراً حكيماً و عقلائياً في كثير من الأحيان ، و يمكن أن نمثل لذلك بمن يتلف أطنان الحديد للظفر ببعض الماس ، أو يضحي بآلاف الجنود من أجل حفظ بعض العلماء ، أو يترك صداقة عشرات الأفراد ، لأجل فرد يمتاز عليهم في الصفات والسجايا.
المقدمة الثانية : هي أن الله تعالى خلق الخلق جميعاً للهداية والصلاح وبلوغ أعلى مراتب السعادة ، غير أن مقتضيات هذا العالم التي لا تنفك عنه تقتضي تفاوت قابلة الناس ، فإذا علم الله أن بلوغ بعض الأفراد المنتمين إلى هذا العالم ـ لا إلى عالم آخر كعالم الملائكة ـ إلى أعلى مراتب السعادة ممكن غير أن خلقهم بدون هذا النظام الذي يؤدي إلى انحرف أغلب الناس غير ممكن لأن هذا يعني خلق حقائق أخرى ، فإن العقل عنا لا يرى قبحاً في خلق العالم من أجل هؤلاء القلة ما دام انحرف الأغلب ينسب إليهم وهم الملامون عليه كما تقدكم في جواب سابق.
بعض الناس بسذاجة يقول : الله قادر على أن يخلق الخلق في غير هذا العالم التي تتفاوت فيه القابليات ، و قادر على أن لا يجعل فيهم شهوة توقعهم في الموبقات ، فماذا لم يفعل.
وقد غاب عن هؤلاء أن هذا فرض لخلق آخر غير خلق عالم الدنيا وقد فعل الله في عالم الملائكة وما فوقه من العوالم ، غير أن عموم الرحمة أقتضى أيضاً أن يكون المخلوق من تراب في أعلى مراتب التكامل ويفوق المخلوقات النورية ، ولهذا خلق هذا العالم ليكون دليلاً على عموم القدرة في جعل بعض الترابيين في أعلى مراتب القرب والسمو ويكفي هذا مبررا لخلق العالم وإن كان على حساب الكم الكثير الذي هو فرط باختياره بلا جبر منه تعالى.
إن سؤال هؤلاء الساذج نظير أن يقول شخص لماذا لم يجعل الرقم 2 بين 9 و 11 وجعل بين 1 و 3 ! إن تغيير مكان الرقم 2 يعني في سلسلة الأعداد تبد حقيقته وانقلابه فيما إذا جعل أن يكون بين 9 و 11 إلى الرقم 10 .
الجواب الرابع : يتكون من مقدمتين :
المقدمة الأولى : هي أن العقل والنقل يؤكدان على قبح معاقبة المعذور الذي خالف في القول والعمل مع عدم إلقاء الحجة عليه .
المقدمة الثاني : لو لم يتم جواب من الأجوبة المتقدمة وقلنا بأن انحراف أكثر الناس وعقابهم خلاف العناية والرحمة ، فيمكن أن يقال : بأن دليل الرحمة والعناية يثبتان لنا أن أغلب الناس معذورون في عدم إصابتهم للحق ، ولا يشكل انحرافهم إلى فترى قصيرة من مجموع حياتهم وهي فترة الدنيا فقط .
وعليه يمكن أن نحافظ على الرحمة والعناية و واقعية الدين وثباته ونخضع النصوص الدالة على أن أغلب الخلق مخلدون في النار ـ إن وجدت ـ للتأويل كسائر النصوص التي تتنافى وحكم العقل .
غير أنه لا تصل النوبة إلى هذا الوجه بعد تمام أحد الوجوه السابقة .
المقام الثاني : في جواب التساؤل الثاني وحاصله :
الله عظيم الشأن حكيم ( غير ) متناهي في قدرته لكن لماذا حين ضرب الأمثلة للدلالة على عظمته وعلو شأنه ضرب أمثلة بسيطة و استدل بذكر آيات من آيات خلقه بينة واضحة كاختياره للإبل و الزيتون والرمان والنخيل وهكذا رغم ما يملكه من مخلوقات دقيقه و عجيبة أكثر تعقيدا مما ذكر؟ أرجو شيخنا العزيز أن تكون استفساراتي واضحة وأبتهل إلى الله أن نستفيد من علمك؟
والجواب : يتضح بذكر أمور :
الأمر الأول : هو أن الله تعالى في كتابه نوّع الأدلة الدالة عليه وعلى قدرته وسائر صفاته .
ففي بعض الآيات استدل بالدليل العلمي المبتني على حساب احتمالات الرياضي ، كما في الآيات الآفاقية وحركة الأجرام السماوية وتدبير الخلق ، وفي بعض الآخر استدل بالبراهين العقلية كدليل الغنى وحدوث النفس .
الأمر الثاني : أي دليل من الأدلة له جانبان :
الجانب الأول : جانب ذات البرهان من حيث شكل المقدمات وترتيبها وبيان كيفية إيصالها إلى النتيجة.
الجانب الثاني : محتوى المقدمات والأمثلة المضروبة فيها .
والجانب الأول يكون ثابتاً سواء كان البرهان بسيطاً أو معقداً ، نعم الجانب الثاني ينبغي أن يختلف باختلاف المتلقي ، لأن الحكمة تقتضي أن يخاطب الناس على قدر عقولهم ، فمثلاً دليل حساب الاحتمالات ، يكن أن يطبق على حركة الكواكب الظاهرة ونمو النباتات والحيوانات ، وهو ما يمكن أن يشاهده ويدركه كل إنسان ، كما يمكن أن يطبق على الحمض النووي للأحياء وما يحتوي من تعقيد و تسلسل دقيق ، والدليل هو الدليل غير أن التطبيق والتمثيل اخلف و بهاختلف الدليل في السهولة والصعوبة .
الأمر الثالث: إن القرآن الكريم كتاب هدية لجمع الناس ، وليس لخصوص العلماء المتبحرين في الفلسفة والعلوم الأخرى ، و قد كان المخاطب الأول به المشركون في جزيرة العرب ، وقد كانوا من أفقر الناس ثقافياً ، ولم يطلعوا على كثير من مكتشفات عصرهم فصلاً عن مكتشفات الأزمنة المتأخرة ، عليه من الطبيعي أن يستخدم القرآن في آياته البراهين العالية والدقيقة ولكن ضمن تطبيقات صحيحة بسيطة يستوعبها عامة الناس ، وهذا من حكمة الله تعالى و إتقان القرآن بل إعجازه ، وهذا لا يعني أن الإنسان لم يذكر تطبيقات علمية دقيقة ، فإنه غير أن هذه الآيات يمكن أن يستوعبها البسيط ويدرك عمقها المتعمق الدقيق . 
والحمد لله رب العالمين

Saturday, May 2, 2015

منازل أمير المؤمنين (عليه السلام) من النبي (صلى الله عليه وآله)

محاضرة سماحة الشيخ حيدر السندي (حفظه الله) في ميلاد أمير المؤمنين 1436 هجري.
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين ، واللعن الدائم والعذاب الأليم على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.
قال رسول الله (صلى الله عليه آله) : علي مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي .
موضوعنا في هذه المحاضرة سوف يكون بعنوان ( منازل أمير المؤمنين من النبي صلى الله عليهما وآلهما) ، والكلام حول هذا العنوان انطلاقا من حديث المنزلة في محورين:
المحور الأول : في اعتبار سند الحديث .
فإنه لا ينبغي الشك في اعتبار سند حديث المنزلة بلا فرق بين مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) ومدرسة السقيفة .
أما في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) فلأنه روي من قبل كبار العلماء في الكتب المعتبرة ، وبطرق متعددة تبلغ حد التواتر ، فقد رواه البرقي في المحاسن و الكليني في الكافي والصدوق في الخصال والتوحيد و عيون أخبار الرضا (عليه السلام) والمفيد في الإفصاح و الإرشاد والمرتضى في الشافي وغيرهم العشرات في عشرات المصنفات .
وأما في مدرسة السقيفة فقد نقل المخالفون الحديث في أصح كتابين عنهم ، فقد أخرجه البخاري بسنده عن إبراهيم بن سعد عن أبيه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي : أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى.
و رواه عن مصعب بن سعد عن أبيه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، خرج إلى تبوك واستخلف عليا ، فقال : أتخلفني في الصبيان والنساء ، قال : ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ، إلا أنه ليس نبي بعدي.
وأخرجه مسلم عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال : أمر معاوية بن أبي سفيان سعدا ، فقال : ما منعك أن تسب أبا التراب ، فقال : أما ما ذكرت ثلاثا قالهن له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلن أسبه ، لأن تكون لي واحدة منهن أحب إلي من حمر النعم ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له ، خلفه في بعض مغازيه ، فقال له علي : خلفتني مع النساء والصبيان ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موصى ، إلا أنه لا نبوة بعدي ، وسمعته يقول يوم خيبر : لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله ، قال : فتطاولنا لهما ، فقال : ادعوا لي عليا ، فأتي به أرمد ، فبصق في عينه ، ودفع الراية إليه ، ففتح الله عليه ، ولما نزلت هذه الآية : فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم . . . دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم : عليا وفاطمة وحسنا وحسينا ، فقال : اللهم هؤلاء أهلي .
و أخرج عن سعيد بن المسيب عن عامر بن سعد بن وقاص عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي : أنت مني بمنزلة هارون من موسى ، إلا أنه لا نبي بعدي ، قال سعيد : فأحببت أن أشافه بها سعدا ، فلقيت سعدا ، فحدثته بما حدثني عامر ، فقال : أنا سمعته ، فقلت : أنت سمعته ، فوضع إصبعيه على أذنيه ، فقال : نعم ، وإلا فاستكتا.
وهذا الحديث يدل على أمرين :
الأمر الأول : عظم مدلول حديث المنزلة ـ كما سوف يتضح ـ خلافاً لما يصوره بعض المخالفين من أنه غاية ما يدل عليه أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله) استخلف علياً (عليه السلام) على المدينة ، وليس في ذلك ميزة له لأنه (صلى الله عليه وآله) استخلف غيره.
الأمر الثاني : ممانعة الجو العام في ذلك الزمان لنقل روايات فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام) والتصديق بها ، فإن الحديث لو كان لا يدل على ميزة عظيمة لأمير المؤمنين (عليه السلام) ، ولو كان الجو العام يميل إلى الإمام (عليه السلام) ويعرف فضله وقدره ، لما حجب حديث المنزلة عن مثل سعيد حتى طلب مشافهة سعدا به بعد أن سمعه من ابنه عامر ، وقال لسعد بعد أن سمع منه تأكيد سماعه ( أنت سمعته) ولما أضطر سعد إلى أن يضع إصبعيه في أذنيه ويدعو على نفسه بالصمم إن كان كاذباً على رسول الله (صلى الله عليه وآله).
وقد نص جملة من علماء المخالفين على تواتر الحديث ، فقد قال الحاكم النيسابوري: هذا حديث دخل في حد التواتر ، وقال ابن عبد البر في الاستيعاب من أثبت الأحاديث و أصحها ... وطرق الحديث إلى سعد كثيرة جداً ، وأورده السيوطي في الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة ، و كذلك محمد ناصر الدين الألباني في كتابه صحيح موارد الظمآن وقال : ( عن سعد بن أبي وقاص وأم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي : أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنّه لا نبي بعدي؟! قلت : حديث سعد في الصحيح ...ثم قال : (صحيح لغيره، بل هو متواتر).
المحور الثاني : في دلالة حديث المنزلة ، ونتحدث في هذا المحور في نقطتين:
النقطة الأولى : في بيان المدلول بنحو إجمالي.
فإن الحديث يدل على أن كل منزلة ثابتة لنبي الله هارون (عليه السلام) بالنسبة إلى نبي الله موسى (عليه السلام) ، فهي ثابتة لأمير المؤمنين (عليه السلام) بالنسبة إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلا ما دل العقل والنقل ـ ومنه استثناء النبوة في حديث المنزلة ـ على نفيه .
فإن المنازل الثابتة بمقتضى الحديث ليست متحدة ، لأن الاستثناء الوارد في الحديث ينافي وحدة المستثنى منه ، فإنه لا يقال جاء رجل إلا زيد ، وإنما يقال جاء الرجال إلا زيد ، وهذا يعني أن الاستثناء يقتضي الكثرة والتعدد ، ولم يستثني النبي إلا النبوة ، ولو كان هنالك منزلة أخرى غير ثابتة لعلي (عليه السلام) لاستثناها (صلى الله عليه وآله) كما لو كان يريد بيان ثبوت منازل مخصوصة لبينها ولم يطلق ، وهو الحكيم الذي ساد البلاغة وأعطي جوامع الكلم.
النقطة الثاني : في بيان المدلول بشيء من التفصيل وذلك بذكر بعض المنازل التي لا تسع محاضرة لتعدادها وذكر فهرس لها .
المنزلة الأولى : أهلية النبوة .
فإن هارون كان معصوماً لا يوجد فيه منفراً يمنع من جعله نبيا ، ويدل على ذلك كونه نبياً بالفعل ، قال تعالى : ( ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبياً) ، فعلي (عليه السلام ) فيه أهلية النبوة وإن لم يجعل نبياً لختم النبوة برسول الله (صلى الله عليه وآله).
المنزلة الثانية : الإمامة .
فإن نبي الله هارون كان الأفضل بعد موسى (عليهما السلام) ، فهو الأعلم والأشجع و الأقرب من نبي الله موسى والأحب إليه ، وواجب التباع والطاعة بعده ، والذي لو قدر بقاؤه بعده لكان خليفته قال تعالى : ( وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ) وقال تعالى على لسان هارون مبيناً فرض طاعته على أمة نبي الله موسى : (فاتبعوني وأطيعوا أمري).
فعلي (عليه السلام) هو الأفضل والأشجع والأعلم والأقرب إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله) و الإمام من بعده ، وقد دمجنا هنا مجموعة من المنازل كما هو ظاهر وبعضها يقتضي ثبوت البعض الآخر .
المنزلة الثالثة : الوزارة . يقول تعالى : ( واجعل لي وزيراً من أهلي هارون أخي ، أشدد به أزري ، وأشركه في أمري ) والوزير من الوزر ، وهو الثقل ، ويقصد به من يلي صاحب الوزر ليقوم بحمل وزره ، وقد كان هارون كذلك فإنه الرجل الثاني بعد موسى ، ومن به شد الله لموسى أزره ، وكذلك أمير المؤمنين(عليه السلام) .
قالت الصديقة الزهراء (عليها السلام): ( وكنتم على شفا حفرة من النار مذقة الشارب ، ونهزة الطامع ، وقبسة العجلان ، وموطئ الأقدام ، تشربون الطرق ، وتفتاتون الورق ، أذلة خاسئين تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم ، فأنقذكم الله تبارك وتعالى بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد اللتيا والتي ، وبعد أن مني ببهم الرجال ، وذؤبان العرب ، ومردة أهل الكتاب ، كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ، أو نجم قرن للشيطان ، وفغرت فاغرة من المشركين ، قذف أخاه في لهواتها ، فلا ينكفئ حتى يطأ صماخها بأخمصه ، ويخمد لهبها بسيفه مكدودا في ذات الله ، مجتهدا في أمر الله قريبا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سيد أولياء الله مشتمرا ناصحا مجدا كادحا ، وأنتم في رفاهية من العيش وادعون فاكهون آمنون ).
المنزلة الرابعة : الشراكة في أمر رسول الله( صلى الله عليه وآله).
فإن هارون كان شريكاً في أمر نبي الله موسى (عليهما السلام) ، يقول تعالى: ( واجعل لي وزيراً من أهلي هارون أخي ، أشدد به أزري ، وأشركه في أمري).
وأمر نبي الله موسى كرسول إلى بني إسرائيل هو الرسالة والدعوة إليها تبشيرا و إنذاراً ، وتأييد الله تعالى له في القيام بمهام الدعوة ، يقول تعالى : ( ولقد آتينا موسى الكتاب ) ( ولقد جاءكم موسى بالبينات ) ( ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا ) ( ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين) ، وقد كان نبي الله هارون شريكاً له في كل ذلك ، فعلي (عليه السلام) شريك لرسول الله (صلى الله عليه وآله) في أمره وهو من حيث كونه ( صلى الله عليه وآله) نبياً ما تقدم في موسى (عليه السلام) نعم علي لا يتلقى الرسالة بالوحي ، لأن النبوة ختمت برسول الله (صلى الله عليه وآله) ولكنه المبين لها والداعي إليها والحافظ الذي يتلوا على الأمة آيات الله ويعلمهم الكتاب والحكمة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله).
المنزلة الخامسة : هي الجعل الإلهي .
فإن منزلة الوزارة والشراكة ووجوب الإتباع لم تكن بجعل من نبي الله موسى ، ولم تكن مجرد اقتراح منه و التنصيب بيد الأمة ، وإنما هي بجعل من الله تعالى ولم يكن موسى إلا داعياً و مبلغاً بعد إجابة الله تعالى يقول تعالى : ( واجعل لي وزيراً من أهلي هارون أخي ، أشدد به أزري ، وأشركه في أمري ، كي نسبحك كثيراً و نذكرك كثيرا إنك كنت بنا بصيرا ، قال قد أوتيت سؤلك يا موسى ).
فعلي (عليه السلام) له هذه المنازل بجعل من الله تعالى ، ولم يكن دور النبي (صلى الله عليه وآله) فيها إلا الدعاء ثم التبليغ بعد إجابة الله تعالى ، فليست إمامة علي (عليه السلام) حكم جعله رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، ولا مجرد اقتراح للأمة من رسول الله (صلى الله عليه وآله) و للأمة أن تقبل به أو ترفض ، إن من حق علي (عليه السلام) أن يقول لأمة النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله) : ( فاتبعوني وأطيعوا أمري ) وليس للأمة إلا أن تقول : سمعنا وأطعنا.
المنزلة السادسة : هي أن علياً (عليه السلام) كان رحمة لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فإن نبي الله هارون كان رحمة لنبي الله موسى (عليهما السلام) يقول تعالى : (ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبياً ) ، فعلي (عليه السلام) بمقتضى إطلاق حديث المنزلة هبة من رحمة الله بالنسبة إلى النبي (صلى الله عليه وآله).
وهذا المنزلة لا يملك العقل إلا أن يقف متحيراً أمامها ، فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله ) رحمة الله الواسعة على جميع الخلائق ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) فهو رحمة حتى لعلي (عليه السلام) فكيف يكون علي نفسه (عليه السلام) رحمة له وكل خير إنما هو من نوره (الله صلى الله عليه وآله) لعل هذا ما جعل سعيد بن المسيب لا يكتفي بسماع حديث المنزلة من عامر ولا يكتفي بالتأكيد الأول لسعد ، ويطلب تكرار التأكيد ، ولعله الذي جعل بعض المخالفين يعتبر دلالة الحديث مما تقشعر منه الجلود .
ففي كتاب السنة لأحمد بن محمد بن هارون بن يزيد الخلال أخبرني محمد بن علي بن محمود الوراق قال حدثني أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم البغوي يعني لؤلؤ ابن عمر أحمد بن منيع قال قلت لأحمد يا أبا عبد الله من قال أبو بكر وعمر وعثمان وعلي أليس هو عندك صاحب سنة قال بلى لقد روي في علي رحمه الله ما تقشعر أظنه الجلود قال أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي).
الحمد لله رب العالمين