Sunday, February 1, 2015

عصمة الامام علي : مناقشة لتخبطات علي النحوي( أزمة الثقافة ):

آثار علي النحوى شبهة مفادها منافاة تولية امير المؤمنين عليه السلام لزياد بن أبيه لعقيدة العصمة التي أطبقت عليها الفرقة المحقة أنار الله برهانهم و هنالك عدة أمور ينبغي ان تأخذ في الحسبان قبل استنتاج نتيجة النحوي القائلة ( تولية زياد بن أبيه تنافي العصمة) :
الأمر الأول : على تقدير ثبوت اشتراط طهارة المولد في الوالي ، فهل هذا الاشتراط عام يشمل حتى ولد الزنا الذي تجري في مورده بالنسبة إلى عموم الناس قاعدة الفراش ، وبعبارة أخرى ، بناء على الاشتراط لا شك في عدم صحة تولية ابن الزنا في الظاهر والواقع ، ولكن هل هذا الاشتراط يشمل ابن الزنا في الواقع والذي هو بحسب الظاهر وعند عامة الناس ابن رشدة - بكسر الراء - ، وبعبارة ثالثة : هل تكليف المعصوم في مقام التولية الأخذ بالظاهر فيجوز له تولية ما يعلم انه ابن زنا في الواقع ما دام عند الناس دليل ظاهري على انه ابن رشدة كقاعدة الفراش ؟
وسبب طرح هذا الأمر هو ان زياد بن أبيه وان كان امير المؤمنين عليه السلام يعلم انه ابن زنا الا ان قاعدة الفراش جاريته فيه بحسب الظاهر ولهذا من الطعون المشهورة على معاوية على لسان علمائنا وبعض العامه انه الحق زياد بن ابيه بابي سفيان وخالف قول النبي صلى الله عليه واله ( الولد للفراش وللعاهر الحجر ) . فلابد من معرفة سعة وضيق دليل اشتراط ان يكون الوالي متولدا من رشدة ، وهذا ما. لم يتعب السيد النحوى نفسه في بحثه !!!
الأمر الثاني : على تقدير عموم الاشتراط. لابد. من البحث في ان هذا العموم هل هو قابل للتخصيص أم لا ؟
فان من الواضح جدا ان العقل لا يدرك قبح تولية ولد الزنا و العقلاء لا يعتبرون قبحها من القضايا العقلية النظرية فضلا عن البديهية ، فان كان هنالك قبح فهو مما دلنا عليه خالق العقل والعقلاء المحيط بمصالح الأشياء ومفاسدها ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة من خردل في السموات ولا في الأرض ، ويترتب على ذلك :
ان العقل لا يدرك قبح تولية ولد الزنا فليست قضية اشتراط ان يكون الوالي ولد رشدة من القضايا العقلية غير القابلة للتخصيص بل هي كسائر القضايا الشرعية التي لا يستقل العقل بادراكها و ينبغي ملاحظة دليلها من حيث العموم وملاحظة انه هل طرأ عليه مخصص او لا ؟.
وهذا للأسف ما لم يتعب علي النحوي نفسه في بحثه .
الأمر الثالث : لا بد من معرفة كيفية العلاج فيما اذا ورد نهي عام تعقبه فعل مخالف صدر من معصوم ، وهذه مسالة أصولية قديمة. وقد تعرض لها الخاصة والعامة وانتهوا إلى نتيجة واحدة اطبقوا عليها وهي التخصيص بيان ذلك :
لو رد نهي عام يشمل المعصوم وغيره ثم صدر من المعصوم في وقت فعل ينافي ذلك النهي العام اتفق علماء أصول الفقه على ان القاعدة في ذلك تخصيص العام بفعل المعصوم في ذلك الوقت ، و العامة مبتلون بذلك أكثر منا ولهذا اهتموا بالبحث فيها أكثر منا ومن أمثله وقوع ذلك عندهم :
١- ما في الصحاح ان رسول الله صلى الله عليه واله نهى عن شرب ماء زمزم عن قيام. ، ففي الصحاح أيضاً انه شرب من زمزم عن قيام . فتعاوض النهي العام مع فعل خاص .
٢-ما في الصحاح ان رسول الله صلى الله عليه واله نهى عن المثلة ولو بالكلب العقور ، وفيها أيضاً انه مثل بالقوم الذين سرقوا أموال الصدقة فقطع ايديهم وأرجلهم وسمل عيونهم وتركهم ينتظرون الموت تحت حرارة الشمس في الظهيرة في الحرة وقد تعارض فيه النهي العام مع فعل خاص .
٣- ما في الصحاح ان رسول الله صلى الله عليه واله نهى عن العقد والبناء والإنسان محرم ، فقد نقل عنه انه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَاله قال : ( لاَ يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلاَ يُنْكَحُ وَلاَ يَخْطُبُ ) رواه مسلم (1409) .وفيها انه خالف ذلك النهي فقد روى القوم عن ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ " رواه البخاري (1837) ومسلم (1410) " وهذا من تعرض النهي العام مع الفعل .
والوجه في الحمل على التخصيص ان عموم العام ظني ولهذا كان قابلا لان يخصص عند العقلاء بل قيل ما من عام الا وقد خص بخلاف دليل العصمة فانه قطعي وإذا تعارض الظني مع القطعي فان ما عليه العقلاء تقديم القطعي على الظني في مركز التعارض فقط ومركز التعارض هو الفعل الصادر من المعصوم في وقته الخاص وفي غير ذلك الفعل الخاص العموم على حاله لا موجب لرفع اليد عنه . وللأسف هذا الأمر أيضاً لم يبحثه علي النحوى وبدل ذلك جاء يكيل التهم مفتخرا بما ذكر وكانه ظفر بالقمر ، متظاهرا بمظهر الفارس المغوار الذي لا يقهر .
ونتيجة ما ذكرناه سابقا : انه لو سلمنا بوجود عموم يشمل حتى ابن الزنا الذي تجري فيه قاعدة الفراش ظاهرا ، فان هذا العموم قابل للتخصيص ومخالفة فعل المعصوم كأمير المؤمنين عليه السلام دليل مخصص بالاتفاق على كبرى مخصيصة فعل المعصوم عليه السلام بين الخاصة والعامة ، فدعوى مخالفة ما صدر منه مع فرض عصمته للشرع دعوى شاذة لم يقل بها احد من المسلمين الا علي النحوى ، ولعل السبب في ذلك انه نحوي ليس فقهيا او متكلما ويتحدث في غير مجال اختصاصه .
ان من المشاكل الكبيرة التي تشكل أزمة التفكير اليوم ظاهر الكسل المعرفي والثقة المفرطة بتراكمات عشوائية تستند الى حديث عابر هنا او مقالة سطحية هناك من دون أساس علمي يُقعد النتائج المتبناة ويشكل ركنا شديدا للفروع الثقافية التي يراد لها ان تتفرع .
كثيرون هم الذين يدعون الثقافة وربما الفكر ، ويبحثون عن موقع او مساحة في جغرافيا التجديد ، ولكنهم في الحقيقة لا يملكون مؤهلا أكثر من شهادة في مادتي الإملاء والتعبير ، و قدرة متواضعة على استخدام الأجهزة الذكية بغرض الكتابة ، أفرزت ما نراه من خواء ثقافي لصاحبه خوار .
حيدر السندي

الهرمنيوطيقيا (التأويلية)

بقلم : حيدر السندي
السؤال : شيخنا الجليل لو تفضلتم بإلقاء الضوء على مصطلح (الهرمنيوطيقيا) فقد كثر الكلام حوله ، واستثمره بعض الحداثيين لكن يلغي حجية فهم الفقهاء ومرجعية الكتاب والسنة في قوانين الحياة؟
الجواب : بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين .
الكلام حول (الهرمنيوطيقيا) سوف يكون ضمن نقاط :
النقطة الأولى : تاريخ (الهرمنيوطيقيا).
(الهرمنيوطيقيا HERMENEUTIC) ترادف التفسير ، وإن كان مقصود أصحابها معنى مختلف نوع ما عن اصطلاح التفسير ويدنو من التأويل ، وقد قيل أن أصل الكلمة مشتق من (هرمس) وهو بحسب الأساطير اليونانية إله الرسائل المتداولة بين الألهية ، فمن (هرمس) هذا أشتق الفعل (HERMENEUIN) وهو بمعنى التفسير والتبيين ، ثم منه أشتق لفظ (الهرمنيوطيقيا HERMENEUTIC) راجع ساختار وهرمنوتيك ص 61.
ولعل أول ظهور (للهرمنيوطيقيا) كان في القرن السابع عشر حيث طبع أول كتاب باسمها في سنة 1654 (لدان هاور) ، وإن كانت مستخدمة قبل ذلك في القواعد العامة التي لابد منها في تفسير وتوضيح النص الديني ، ثم غادرت بعد ذلك مساحة النص الديني لتكون قواعد عامة لفهم كل نص سواء كان دينياً أو أدبياً أو علمياً ، بل (الهرمنيوطيقيا) تجاوزت جغرافيا النص في الوقت الراهن لتطال المواقف وتشخيص ما يسمى بدلالاتها الحالية والمقامية .
إن قواعد الفهم في (الهرمنيوطيقيا) تهتم بمعالجهة جهات متعددة ترتبط بالنصوص كحقيقة النص وفهمه وأصالة الملقي أو المتلقي وتأثير التراث والتقاليد على الفهم وهذا ما يعالج استقلالية النص كخزانة أمينة على مرادات المتكلم وأهمية هذه المرادات بالنسبة إلى مايفهمه المتلقي أو المفسر ، وعلى تقدير أمانة النص وكون مراد المؤلف هو المحور ، فهل يمكن اقتناص معانيه أم أن عملية التفسير تتأثر بعوامل متعددة خارجة عن سيطرة المفسر ، وهي تختلف باختلاف الزمان واللغة والبيئة ، وبالتالي لا يمكن الركون إلى معنى ثابت متاح للجميع مع وحدة النص ما دام الاشتراك في تلك العوامل المؤثرة متعذراً وطلبه طلب للمستحيل.
وحيث أن هذا القواعد المقررة للفهم قابلة للخلاف والتطوير ، فإن إخضاع النص الديني لها يوجب تأرجح المعاني المستفادة منها ، وهذا من الخطورة بمكان يسترعي اهتمام الباحثين في اللاهوت والتقنين الديني.
النقطة الثانية: مراحل (الهرمنيوطيقيا).
مرت (الهرمنيوطيقيا) بمراحل مختلفة و يختلف تعريفها باختلاف مراحلها وقد ذكر بعض الباحثين أن مراحلها ثلاث:
المرحلة الأولى : التأويلية الكلاسيكية، وهي عبارة عن منهج لفهم النص الديني في أول الأمر ثم تطورت لتصبح منهجاً لفهم كل نص بل وكل ما له دلالة وإن كان حالاً وموقفاً ومقاماً كما ألمحنا إلى ذلك سابقاً. ففي كتاب (إشكاليات القراءة) : مصطلح (الهرمنيوطيقيا) مصلح قديم ...يشير على مجموعة القواعد والمعايير التي يجب أن يتبعها المفسر لفهم النص الديني (الكتاب المقدس) .ص 13
وهذه المرحلة تجعل الأصالة للنص كحافظ أمين لمقصود الملقي أو المؤلف أو قصد صاحب الموقف ، و العصر الذهبي الذي ازدهرت فيه هذه المرحلة ، هو عصر النهضة وضعف بل سقوط مكانة الكنيسة ورجالها في أوربا ، حيث مست الحاجة إلي وضع قواعد الفهم (للكتاب المقدس) لتجنب الفهم السيء الذي عليه أقيمت محاكم التفتيش ونصبت المقاصل .
ومن هنا جاء تعريف (الهرمنيوطيقيا) في كتاب (دان هاور) بأنها : القواعد والمناهج اللازمة لتفسير الكتاب المقدس).
المرحلة الثانية : التأويلية الرومنسية.
وهي تهتم بوضع قواعد تجنب سوء الفهم ، والمؤسس لها (شلايرماخر ت 1834 ) وفي تصوري تختلف المرحلة الرومنسية عن سابقتها في ناحيتين:
الناحية الأولى : هي أن قواعد الفهم تقوم بدور واحد يمكن أن يعبر عنه بتعبيرين:
التعبير الأول : إصابة فهم المؤلف. 
التعبير الثاني : عدم الوقوع في الخطأ بتوهم معنى آخر لا يقصده المؤلف.
والكلاسيكية أخذت التعبير الأول عنواناً لها ، بينما الرومنسية أخذت الثاني عنواناً لها ، وبالتالي هذه الناحية من الفرق لا تعدو كونها تعبيرية فلا تنفع لجعل الرومنسية مرحلة ثانية تختلف عن المرحلة الكلاسيكية ، خصوصاً إذا لا حظنا أن المرحلتين تشتركان في أصالة النص بما هو حافظ لمراد المتكلم وإمكان الوصول إلى معنى المؤلف ولو في بعض منعطفات الرومنسية.
الناحية الثاني: امتزاج القواعد الحاكمة في المرحلة الكلاسيكية بقواعد جديدة ما كنت موجودة ولها دخل في تحديد مراد المؤلف ، وهذا ما قام به (شلاير ماخر) بعد دراسته لمجموعة من الأبحاث ذات النزعة النفسية المؤثرة في علاقة المؤلف بالنص كالتجربة الدينية والتعددية والرومانسية الأدبية.
فقد أضاف (شلاير) أن للنص جانبا موضوعيا ثبتاً : وهو ما يفهم بمعرفة دلالات الكلمات والقواعد اللغوية الحاكمة على اللغة ، وهذا الجانب مشترك في كل نص بين المؤلف وجميع القراء ، وله ـ أيضا ـ جانباً آخر يعبر عنه بالجانب الذاتي أو النفسي ، وهو عبارة عن التجربة الثقافية الذاتية للمؤلف ، و الوصل إلى هذا الجانب مهم جداً لفهم مراد المؤلف ، ولكنه من جهة أخرى عسير جداً ، لأنه يتوقف على فهم المنطلقات الثقافية للمتكلم أو الكاتب ، وهذا يعني ضرورة فهم التجربة المعرفية الشخصية للملقي.
فإن الكتابة فن يعكس ما يحس به الكاتب ويشعر ، و عملية الكتابة أشبه بعملية الرسم ، فكما أن اللوحة تفاعل نفسي إحساسي ،و لهذا هي تعكس جانباً أبستملجيا من جهة وجانباً سيكيولجياً من جهة أخرى ، فكذلك النص المكتوب والملفوظ أيضاً .
و لا يبعد أن يكون قد تأثر في ذلك بالرومانسية الأدبية أو جذور التفسير الفني ، و قد كان لها شيوعاً عاماً في زمانه ، إلا أنه حاول أن يزاوج بين الجانب الكلاسيكي للتأويلية (الهرمنيوطيقيا) و الأدبية الرومانسية.
وعلي أي حال ، فإن (شلاير) انتهى إلى أن قواعد الفهم التي تعالج الجانب الموضوعي لا تنفع لفهم النص ، بل لا بد من دراسة الجانب الذاتي وفهم قواعده ، و حيث أن هذا الجانب معقد جداً خصوصاً مع اختلاف زماني المتكلم والمفسر ودرجة تفاوت المستوى الثقافي بينهما ، فالأصل أن يقع فيه الإنسان في الخطأ ، لهذا ينبغي أن يُهتم بدراسة قواعد تجنب سوء الفهم ، وبهذا بدأت مرحلة (الهرمنيوطيقيا الرومنسية) ، وهي مرحلة تطالب المفسر بالتحليق بعيداً عن موقعه الثقافي والنفسي إلى موقع الملقي والمؤلف للوقوف على الجوانب الذاتية لفهم النص .
وقد كان تعميم (الهرمنيوطيقيا) لغير النص الديني ، وغير النص المكتوب من نتائج (شلاير ماخر) ولعظم الدور الذي قام به في هذا الصدد عبر عنه (ديلتاي) بأنه : ( كانت الهرمنيوطيقيا).
وهذه المرحلة كسابقتها ترى أصالة للنص كحافظ لمراد المؤلف ، وأن القارئ يمكن أن يصل إلى مراد المتكلم المحدد وغير القابل للقراءات المتعددة ، ولكنها ترى الطريق إلى ذلك أكثر وعورة ومشقة ، وأن مراد المتكلم قد يكون أوسع مما تعطيه قواعد اللغة والمحاورة العامة ، و أن ادراكه يتوقف على ملاحظة السجل الثقافي للمتكلم كاملاً في جميع الصعد الثقافية ، وفي بعض كلماته (شلاير) يمكن أن يفهم المفسر كلام المتكلم بنحو أعمق من فهم المتكلم بسبب تطور العلوم وتراكمها التكاملي.
إن إشكالية ارتباط النص بالجانب النفس للمؤلف وصعوبة الوقوف على الخارطة الثقافية لأي مؤلف كانت في القرن التاسع تطال جميع العلوم الإنسانية بما في ذلك التاريخ ، فإن فهم التاريخ وتفسير قصاصاته والربط بينها يتوقف على فهم جميع الملابسات الحاكمة على الحدث في موقعه الزمني الخاص ، وحيث أن قارئ التاريخ لا ينتمي إلى ذلك الموقع ، فإن معطياته تبقى نسبية لا إطلاق فيها ، وللتخلص من هذه الاشكالية حاول (ديلتاي) أن يعمم القواعد التي ذكرها (شلاير) لفهم الجانب الذاتي من النص لجميع العلوم الانسانية بما فيها التاريخ ، وبهذا جعل (الهرمنيوطيقيا الرومنسية) متكفلة لوضع القواعد العامة التي تجنب الباحث سوء الفهم في جميع العلوم الانسانية والتاريخية. 
المرحلة الثالثة : التأويلية الفلسفية . 
وهي المرحلة التي تتعامل مع الفهم كموجود ما وتسعى من أجل معرفة حقيقته و إعطائه تفسيراً ، ففي المرحلة السابقين كانت (الهرمنيوطيقيا) منهجاً لفهم النص ، والتعامل فيها مع الفهم كان تعاملاً آلياً بالنسبة إلى النص ، وأما في هذه المرحلة فقد حذف النص وما عاد مهماً بقدر ذات الفهم الذي يراد أن يتعرف على حقيقته ، وقد بدأت (الهرمنيوطيقيا الفلسفية) على يد (مارتن هيدجر ت 1976) ولكن لم تصبح مذهباً واضح المعالم له تأثير عام في العلوم الإنسانية لاسيما اللسانيات منها إلا على يد تلميذه (غادامر) وقد صار هذا المذهب روحا لعدة من النظريات التي غلفت بعناوين أخرى ونسبت إلى أشخاص آخرين ومن تلك النظريات نظرية القبض والبسط في الشريعة التي تبناها الكاتب المعروف عبد الكريم سروش وادعاها لنفسه ، وليست في الحقيقة إلا تطبيقاً (للهرمنيوطيقيا الفلسفية) .
وترتكز هذه المرحلة على الأمور التالية :
الأمر الأول : هو المفسر أو المتلقي ، خاضع لثقافته وتجربه الذاتية الخاصة ، وفي تصوري أفاد (هيدجر) في هذا الأمر مما ذكر (شلاير) في الجانب الذاتي للنص ، ولكن طبقه على المتلقي وليس على الملقي ، لينتهي إلى أن كل مفسر يتأثر ببيئته الثقافية في فهم النص ، فالفهم القبلي والتركيب المعرفي والثقافي يحددان ما يفهمه كل مفسر .
وما يشكل البيئة الثقافي مجموعة أمور منها : (العادات والتراث و القيم والأخلاق والتفسيرات السابقة للنص ).
الأمر الثاني : الظروف الدخيلة في الجانب الذاتي للمتلقي ـ إن صح التعبير ـ ليست واحدة وإنما تختلف من مفسر إلى مفسر ، لأنها مختلفة من مكان إلى آخر ومتأرجحة متطورة وكائن حي ذو نمو من زمان إلى آخر ، ويصعب اتفاقها في مفسرين من جميع الجهات.
الأمر الثالث : حيث أن المفسر لا يمكن أن ينفك عن العوامل المؤثرة في الفهم والتي تختلف في المؤلف والمفسر من جهة وفي المفسر بالنسبة إلى مفسر آخر من جهة أخرى ، فلا بد وأن تكون المحورية للنص من جهة فهم المفسر لا مراد المؤلف ، وحيث أن المفسرين لا يمكن أن يجتمعوا على فهم واحد ، فالذي ينبغي أن تصب الجهود العلمية في حقل (الهرمنيوطيقيا ) لفهمه هو ذات الفهم المختلف والمتعدد ، ولهذا يرى (هيدجر) أن للنص شخصية مستقلة عن المؤلف ، فليس المهم معرفة قصد المؤلف وحدوده وإنما ما يفهمه الآخرون من النص . راجع هرمنوتيك مدرن ص 210.
الأمر الرابع : أن فهم النص كوجود مستقل في نفسه لا كموجود للمؤلف بقدر ما يملك المفسر من علم وثقافة ، فنوعية الأسئلة التي يطرحها المفسر هي التي تحدد الفهم ، وحيث أن الأسئلة تنبع من الرصيد الثقافي الذي يمتلكه المفسر ، فالمستوى الفهم مرهون بالمعلومات السابقة .راجع إشكاليات القراءة ص 36. وحيث أن المعلومات تتطور وكلما تطورت العلوم وتقدمت التجارب ، فإن الفهم لأي نص يتطور وبالتالي لا يمكن أن نظفر بفهم نهائي إلا في آخر لحظات اليوم الأخير من هذا الكون ، وهذا ما كان يكرره كثيرا سروش في نظريته القبض والبسط التي لا تعدو كونها ترجمة فارسة مع تطبيق خاص (للهرمنيوطيقيا الفلسفية).
إن الطابع العام لهذه الأمور المتقدمة يتمثل في ( أن المفسر هو المحور ، وأن النص ينفك عن مراد المؤلف ) وهذا الطابع العام تشترك فيه توجهات فكرية حديثة منها البنيوية التي ترى كل نص كالوثيقة ذات الرموز الخاصة ، ولكي يتحقق الفهم لا بد من فك الرموز بقطع النظر عن المؤلف ، فكما أن فتح أقفال الحديد بمفاتيحها من دون دخل للصانع ، فكذلك أقفال المعاني المتمثلة في النصوص ، من هنا عنون البنيوي (رولان بات) أحدى مقالاته بعنوان (موت المؤلف).
وبهذا يكون فهم المؤلف أحدى القراءات المتعددة ، ولا يعبر عن أكثر من لحظة احداث النص ، و بلحاظ الاستمرار يفقد تفرده في الفهم وتنازعه فيه أفهام جميع المفسرين ويكون المؤلف من حيث الحكم كأي مفسر من المفسرين ، ويمكن أن يمثل لهذه الاستقلالية بالتمثال ، فإنه ليس من المهم معرفة قصد الناحت وما كان يختلج في صدره حال عملية النحت ، وإنما المهم ملاحظة نفس النتاج كحالة ثابتة متعددة الأغراض يمكن أن يستلهم منها ما لم يكن وارداً في ذهن النحات نفسه .
الأمر الخامس : عدم وجود ميزان ومعيار يمكن أن نقيم به الأفهام المتعددة ، لأن لكل فهم مبرراته الذاتية ، كما أن كل معيار يذكر هو في نفسه فهم خاص خاضع لتجارب معرفية خاصة.
هذه تقريباً الملامح العامة (للهرمنيوطيقيا الفلسفية) فهي جدلية نسبية لا يوجد فيها جانب موضوعي ثابت وإن حاول بعض أصحابها أن يبرز جانباً موضوعياً كـ(ريكور و هيرش ) كترميم لبنسبية التي وقع فيها (مارتن هيدجر) و (غادامر) .
النقطة الثالثة: في تقييم المرحلة الرومنسية (للهرمنيوطيقيا).
هذه المرحلة فيها جهات مقبولة ولا يوجد مانع من تأييدها وقبولها كجعل فهم مراد المتكلم للنص محطاً للاهتمام بعد جعل مراد المتكلم هو المحور والنص هو الحافظ الأمين عليه فيما إذا روعيت ضوابط اللغة وقواعد المحاورة العامة ، نعم هناك جهات أخرى غير مقبولة منها :
الجهة الأولى : أن الجانب الذاتي للنص الذي ذكره (شلاير) ليس مطرداً في جميع النصوص بما فيها النص الديني ، فإن القرآن على سبيل المثال صادر عن الله تعالى ، والله ليس خاضعاً لظروف زمكانية خاصة وتجربة ثقافية شخصية ، وبالتالي لا نتصور في نصوص الشرع المقدسة جانباً ذاتياً وراء الجانب الموضوعي ، فينحصر الطريق في فهمها في معرفة القواعد العامة التي تحكم نظام التحاور في اللغة ، ولكن في زمن الخطاب لا زمن المتلقي ، نعم في النصوص التي تنقل بالمعنى يكون للكلام عن الجانب الذاتي مجال ، ومعالجته تتم إما بتحصيل الوثوق بالملابسات الذاتية ، أو الدليل القطعي على حجية ما يدل عليه النقل البديل الذي يفترض فيه أن يكون محافظا على النص الأصيل الذي يراد نقل معناه.
الجهة الثانية : دعوى إمكانية أن يفهم المفسر من النص أكثر مما يفهم المؤلف منه .
فإن هذه الدعوى محل تأمل في ظل (الهرمنيوطيقيا الرومنسية) التي تجعل الأصالة للنص بما هو حافظ لمراد المؤلف ، لأن الدلالات الزائدة حينئذ لن تكون مدلولاً للنص حال صدوره عن المؤلف ، وإنما للنص في نفسه بلحاظ المخزون الثقافي للمتلقي ، وأين هذا من فهم النص في جوه الخاص ، نعم يتصور هذا فيما إذا لم يحسن المؤلف تركيب المفردات فأضاف أو أنقص النص بنحو جعله يفيد معنى إضافياً أو آخر ، كما أنه يتصور فيما إذا كان للمعنى المفاد لوازم عقلية أو عرفية غفل عنها المتكلم مع عدم كونها جزءاً من المدلول الوضعي للمفردات النص نفسه.
وكيف كان فلا يعقل ذلك في النص الديني الصادر من الكامل المطلق الذي لا يعزب عنه شي وهو محيط بكل شيء.
النقطة الرابعة : في تقييم المرحلة الفلسفية (للهرمنيوطيقيا).
ويمكن أن يسجل عليها عدة ملاحظات :
الملاحظة الأولى : لزوم انسداد باب الحوار والتخاطب وفقد جمع النصوص لخاصية الحكاية ، بيان ذلك :
إن الغرض من التكلم والكتابة ليس إيجاب تلفظ بحروف أو رسم خصوص على لوح أو ورق ، وإنما إفادة المعاني ونقل ما في الذهن إلى ذهن آخر ، ولو لا أن المتكلم والكاتب يرى إمكانية فهم مراده من المتلقي لما أقدم على التكلم ، فلو قلنا بـ(الهرمنيوطيقيا الفلسفية) القاضية بأن الفهم مرهون بالمعلومات السابقة ومقدار ما يطرحه المفسر عن النص من أسئلة وأن هذه المعلومات والأسئلة لا يجتمع عليها اثنان سواء كان أحدهما مؤلف أو كانا مفسرين ، فلماذا يتكلم المتكلم ومراده لا يفهم ، وعن أي شيء يبحث المفسر في النصوص لتحصيل إقرار تارة أو إنكار أخرى ، أو شهادة ثالثة ، ولماذا أصحاب (الهرمنيوطيقيا الفلسفية) كتبوا الكتب لشرح نظريتهم وهم يعلمون بأن القارئ لكتبهم ونصوصهم مهما كان يختلف عنهم ولا يمكن أن يفهم كلامهم كما يفهمونه هم ! وهذا يلزم من تاريخية الفهم سد باب الخطاب والتحاور ومحاولة تفهم النصوص.
ومنا هنا أكل كل من (هابرماس) و (كارل اتو) على التأويلية الفلسفية بلزوم انسداد باب النقد والتقييم لأي نص أو تفسير. 
الملاحظة الثانية : هي أن تعمم النسبية لجمع النصوص في غير محله، ولعل سبب الاشتباه من أصحاب هذه النظرية هو أنهم لا حظوا نوعين من الاختلافات الواقعة :
النوع الأول : الاختلاف العرضي بين المفسرين في كثير من النصوص المجملة والظاهرة .
وهذا قد يكون سببه اختلاف قوة المفسر في معرفة القواعد و القرائن وليس نسبيه الفهم في نفسه ، بمعنى أن تطبيق قواعد اللغة الثابتة مع ملاحظة القرائن العامة والخاصة من القواعد الثابتة والمحفوظة ، نعم قد يتفاوت مستوى المفسر في معرفة القواعد والقرائن ويختلف الفهم ، وليس هذا من تاريخية الفهم في شي. 
النوع الثاني : الاختلاف الطولي كالاختلاف في حقيقة الشمس التي يدل عليها قوله تعالى : (إذا الشمس كورت) ، فكون الشمس جسم غازي أو صلب أصغر من الأرض أو أكبر مما وقع الخلاف فيه ، ولكن هذا الخلاف لا ربط له بدلالة الكلمة على معناها ، وقد يتصور أن هذا الاختلاف من مؤيدات نسبية الفهم ، وليس الأمر كذلك.
الملاحظة الثالثة : هي أن الكلام سواء كان مكتوباً أو ملفوظاً تارة يكون صريحاً لا يحتمل أكثر من معنى ، ودلالته على المقصود حينئذ قطعية ، كدلالة قولنا (جاء أحد عشر رجلاً) على العدد الخاص.
وأخرى تكون دلالته ظهورية يحتمل فيها أكثر من معنى ولكن أحدها هو الأقرب ، وهنا يكون المدار مدار الظاهر ولكن بحسب قواعد اللغة المشتركة الثابتة في زمن صدور النص وهو ما يعبر عنه علماء الأصول بالظهور الموضوعي ، في مقابل الذاتي الذي يتأثر بملابسات خاصة تختلف من مفسر إلى آخر ، وهذا الظهور هو مقصد العقلاء في باب التحاور إذ مطلوبهم تحصيل الوثوق المعتبر عقلائياً ، والعقلاء في كثير من العلوم لا يتحصلون على أكثر من الاطمئنان ، و يعولون عليه لأنه عندهم بمنزلة اليقين عملاً ، و تحصيل اليقين في القضايا بشكل عام نادر ولعله لا يتجاوز مسائل الفلسفة والرياضيات وما شاكلها في الوضوح.
وأما الكلام المجمل الذي فيه احتمالات متكافئة فلا عبر به إلى مع القرائن التي ترجح أحدى محتملاته .
الملاحظة الرابعة : من المشاهد وجود قضايا ذات فهم مشترك مع اختلاف الناس في الزمكان والعادات والثقافة ، ومنها قولك: (1+1=2) وقولك: (العلة أقوى من المعلول ) وقولك: ( المريض بحاجة إلى علاج) ، وهذه صخرة صلبة تتكسر عنها أمواج نسبية (الهرمنيوطيقيا الفلسفية) العامة.
فإن هذا يكشف لنا عن أن الفهم واحد مع اتحاد الظروف ، وهي قد تتحد في كثير من القضايا ، وإذا التفتنا إلى أن المكلم الحكيم هادف ويرد إيصال و لهذا يعتمد على قواعد المحاورات العامة الواضحة للجميع ، فالأصل فيه بمقتضى عقله وحكمته أن لا يوظف قرائن لها دخل في فهم المعنى ولكنها خاصة لا يدركها إلا هو ، وبهذا نقف على حكم النص الديني الصادر من الله الحكيم المحيط بجميع الحيثيات بامتداد عمود الزمان.
الملاحظة الخمسة : تفترض (الهرمنيوطيقيا الفلسفية) أن المعلومات السابقة تأثر على فهم النص ، وهذا صحيح بعد الالتفات إلى أمرين:
الأمر الأول : ما ذكرناه سابقاً من ضرورة التمييز بين الظهور الذاتي والموضوعي.
الأمر الثاني : أن المعلومات الأسئلة التي يطرحها المفسر على النص دورها استنطاق النص ، لا أن النص صامت فرغ من المعاني وهذا الأسئلة و تلك المعلومات تملؤه بالمعاني .
والمعلومات السابقة عند المفسر إما القواعد العامة للمحاورات كمعرفة دلالة الكلمات الأفرادية والتركيبية و القرينة وذي القرينة و الأساليب البيانية والبلاغية والتحسينات ونحوها مما يدرس في كتب اللغة وأصول الفقه ، وهذه ثابتة ، وأما معلومات توجب توارد ملزومات المعنى المفاد بالنص ، فتنقدح أسئلة في ذهن المفسر ، نظير معلومة أن العقاب لا يحسن إلا للعاقل التي تولد من قراءة قوله تعالى : (وإذا الوحوش حشرت) السؤال التالي : لماذا تحشر مع أنها لا تقبل الحساب لعدم العقل ؟
وهذه المعلومات تأثر في ما يستفاد من النص ولكن من جهلة تعميق المعنى طولاً و لا دخل لها في فهم المعنى من النص . نعم بعض هذه المعلومات قطعية كالقرائن العقلية وهي توجب تأويل النص أو تقييده وتخصيصه ، ومثل هذه المعلومات لا ننكر تأثيرها على الفهم ، ولكن هذا لا يعني نسبية الفهم لأن هذا القواعد يمكن أن يدركها جميع الناس ، ومن يغفل عنها ويزل فهمه ، لا يمكن أن يعد فهمه قراءة معتبرة وإنما هي اشتباه ، فكم فرق بين أن نعتبر هذا الاشتباه تفسيرا بالرأي ونلغيه من الاعتبار، وبين ما تدعو إليه (الهرمنيوطيقيا الفلسفية) من اعتباره أمراً ضرورياً لا تنفك عنه عملية الفهم .
الملاحظة السادسة : وهي تبتني على أدلة العقل بوجود الله وصدق النبي ، فإن النصوص الدينية الصادرة عنهم صراحة تفيد محورة النص ككاشف عن معنى ثابت هو مراد المتكلم ، ومن تلك النصوص الآيات الآمرة بالتمسك بالقرآن والعمل به وحديث التقلين ، و إرجاع المعصومين إلى أحاديث النبي (صلى الله عليه وآله) و الأئمة السابقين (عليهم السلام).
الملاحظة السابقة : إشكال الدور الذي أشار إليه (شلاير ماخر) حيث ذكر أنه لو كان فهم النص يتوقف كل المعلومات المرتبة بالمؤلف ، ومنها معرفة حياة حياته و لا يمكن الإحاطة بحياته إلا بفهم نصوصه فيتوقف فهم نصوصه على فهم نصوصه .
هذه وغيرها بعض الملاحظات التي ترد على (الهرمنيوطيقيا الفلسفية)التي أسست من بلاد الغرب وطار بها بعض مثقفي العرب والفرس فرحاً وأرادوا بها إسقاط حجية النص الديني ، وفهم الفقهاء المتخصصين المعتمدين في نتائجهم على قواعد الفهم المقررة عند العقلاء والشرع .
والحمد لله رب العالمين

معرفة الله تعالى نداء الفطرة (1):

محاضرة لسماحة الشيخ حيدر السندي
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله العلي العظيم في كتابه الكريم: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}(الروم:30) آمنا بالله، صدق الله العلي العظيم.
تاريخ الاعتقاد بوجود الله تعالى:
الاعتقاد بوجود خالق ومدبر للكون كما أثبت علماء الآثار والتنقيبات ودلت عليه الرسوم القديمة المكتشفة من أقدم العقائد الملازمة للإنسان من يومه الأول وإلى يوم الناس هذا، فقد اكتشفت أقدم الرسومات الكهفية في كهف يسمى (الكستلو) في أسبانيا يعود تاريخ هذه الرسومات إلى أربعين ألف سنة، وقد قدمت دراسات حول هذه الرسومات ، نتيجة هذه الدراسات هي أنّ هذا الكهف بما فيه من الرسومات بحسب موقعه الذي لا يصلح للسكنى بسبب وعورة الطريق وصعوبة الوصول إليه ، إنما أعد لعبادة الإله والتقرب إليه، ولهذا أطلق على هذا الكهف اسم مشهور وهو كنيسة (سيستين)، أي المكان الذي أعد لعبادة الإله وتقريب القرابين فيه.
الاعتقاد بوجود الله تبارك وتعالى في عقيدتنا نحن المسلمون كان موجوداً مع الإنسان الأول، فالإنسان الأول كان نبياً أنزله الله تبارك وتعالى من السماء ، ومعه إيمانه بوجود الله وتوحيده تبارك وتعالى، استمر هذا الاعتقاد والإيمان يعبر القرون من الإنسان الأول إلى يوم الناس هذا، فأغلب الذين يعيشون على كوكب الأرض الآن يؤمنون بوجود إله.
الديانات الإلهية :
أغلب الناس ينتمون إلى ديانات ثلاث:
الديانة الأولى: الديانة المسيحية، وعدد المسيح يبلغ مليارين ومائتين مليون.
الديانة الثانية: الديانة الإسلامية، وعدد المسلمين مليار وستمائة مليون.
الديانة الثالثة: الديانة الهندوسية، وعدد الهندوس يبلغ مليار ومائة مليون.
ثم بعد هذه الديانات تأتي ديانات أقل عدداً مثل الزراشتدسة والهندوكية واليهودية، وكل هؤلاء يطبقون على الاعتقاد بوجود إله، نعم يختلفون في اسم الإله وفي صفته هل هو واحد أو متعدد.
إحصائيات في الاعتقاد بوجود الله:
مركز الدراسات الأمريكي المختص بدراسة المعتقدات (بيوفورم) قدم احصائية تقول 84% من مجموع سكان الأرض يؤمنون بوجود إله، يعتقدون أنّ للكون خالق وأنّ هنالك قدرة غيبية وراء عالم الطبيعة تدبرها، وهذا معناه أنّ الذين لا يعتقدون بوجود الله قلة، فالذين لا يؤمنون بوجود الله في الشرق الأوسط عددهم 2% وفي إفريقيا 3% وفي أوربا 13% والبقية يؤمنون بوجود إله .
أكبر عدد ذكر للملحدين 800 مليون، 150 مليون منهم هم الملحدون بما يسمى بالإلحاد القوي أو الموجب أي يعتقدون بعدم وجود إله، وأما البقية فيقولون لا ندري أيوجد إله أو لا؟
سبب الاعتقاد بوجود الإله:
السؤال الذي نريد الإجابة عليه هو : ما هو السبب الحقيقي وراء الاعتقاد بوجود إله، لماذا أغلب الناس يعتقدون بوجود خالق ومدبر للكون؟
في مقام الجواب قدمت نظريات متعددة، نقتصر على ذكر ثلاثٍ منها:
النظرية الأولى: نظرية الخوف والجهل.
يقول أصحاب هذه النظرية : إنّ الإنسان البدائي كان يخاف مجموعة من الظواهر الضارة التي تنهي حياته كالخوف من الزلازل والبراكين والأوبئة ونحوه، وكان لا يعرف سبب حدوث هذه الظواهر، فاعتقد بسبب خوفه وجهله بوجود قوة عظيمة وراء الكون هي التي تحدث هذه الظواهر، فأخذ يخضع لها ويقدم لها القرابين من أجل السلامة والعافية.
قال ويل ديورانت في كتابه المشهور قصة الحضارة: الخوف كما ذكر بعض الفلاسفة هو أول أمهات الآلهة. أي أنّ الآلهة لها أمهات ولدتها، فأول تلك الأمهات خوف الناس، فلأجل خوفهم أنتجوا فكرة الإله.
ثم قال: اشتركت عوامل متعددة في خلق الاعتقاد الديني منها الخوف من الموت.
أي بسبب خوفهم من الموت والانتقال وعدم علمهم بالمصير بعد الموت، اعتقدوا بوجود آلهة تنتظرهم في العالم الآخر، و إما أن تنتظرهم بالرحمة أو تنتظرهم بالعذاب.
وقال راسل الفيلسوف الانكليزي -الذي كان من المتحمسين في تبني هذه النظرية في بعض حياته-: لأنه ـ أي الإنسان ـ يجهل الأسباب الطبيعية اعتقد بوجود إله.
فلأنّ الإنسان لا يعلم أن سبب الزلزال تحرك صفائح الأرض أو سبب البركان ضعف القشرة الأرضية أو سبب الأمراض الفيروسات والبكتيريا، فهو يجد نفسه صحيحاً ثم في فترة يتحول إلى مريض لعدم علمه بسبب حدوث هذا المرض، يعتقد بوجود قوة أحدثت فيه المرض، مع أنه في الواقع دخل في جسمه فيروس وتمرض، فلو كان الإنسان أدرك الأسباب واستطاع أن يتنبأ بوقوع هذه الأسباب ويحذر من وقوع هذه الظواهر لما اعتقد بوجود إله، ولذا قال هناك علاقة بين انتشار العلم وانتشار الإلحاد فكلما توسع العلم وانتشر كلما اقترب الناس من الإلحاد ، وكلما ترسخ الجهل وانتشر اقترب الناس نحو الاعتقاد بوجود آله.
هذه النظرية فاسدة وتوجد عليها عدة ملاحظات نقتصر على ذكر اثنين منها:
الملاحظة الأولى: هي أنّ الواقع اليومي يكذب هذه النظرية، فإنّ اليوم هو يوم تطور العلوم وتفجر المعارف والمعلومات، الآن أغلب الناس يعلمون بأكثر الأسباب الطبيعية، فيعلمون أنّ سبب الزلازل تحرك صفائح الأرض، وسبب الأمراض والأوبئة فيروسات ومخلوقات بكتيرية، ومع ذلك أغلب الناس يؤمنون بوجود الله عز وجل، فأوربا مثلاً من أكثر الدول تطوراً في صعد وعلوم متعددة (الكيمياء، الرياضيات، الفلك، الفيزياء، الطب) إذْ الأوروبي يخضع لتعليم متطور جداً مع ذلك نسبة الملحدين في أوروبا 13% والأغلب يؤمنون بوجود الله تبارك وتعالى، فهذا دليل وبرهان على أنّ سبب الاعتقاد بالله ليس الجهل بأسباب هذه الظواهر المكروهة لأنه حصل العلم بها ومع ذلك الإيمان بالله تبارك وتعالى موجود، فلابد وأن نبحث عن سبب آخر.
الملاحظة الثانية: وهي أنّ أكبر العباقرة والمكتشفين وأصحاب التخصصات العلمية في مختلف الحقول المعرفية يعتقدون بأنّ للكون إلهاً، القائمة تبدأ من سقراط، أفلاطون، أرسطو، فارابي، ابن رشد، ابن سينا، غاليلو، إسحاق نيوتن، أينشتاين، فكلهم يؤمنون بوجود إليه مع أنهم عباقرة متخصصون عارفون بالأسباب الطبيعية لهذه الظواهر المكروهة.
إسحاق نيوتن من أكبر العقول العلمية التي عرفها التأريخ البشري، مايكل هارت صاحب كتاب العظماء المائة، ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله العظيم الأول، قال أعظم إنسان عرفه التاريخ رسول الله صلى الله عليه وآله، ثم ذكر بعده مباشرة إسحاق نيوتن، وبعده ذكر المسيح على نبينا وآله وعليه أفضل الصلاة والتسليم، نيوتن كان مؤمناً ومدافعاً عن الإيمان بوجود إله وخالق، ونقلت عنه عبارة ومشهورة، وهي: الجاذبية يمكن أن تفسر لنا حركات الكواكب ولكنها لا تفسر لنا من الذي جعلها متحرك؟ فالله يحكم كل شيء ويعلم بكل شيء.
قانون الجاذبية يمكن أن يفسر لنا الظاهر، فهو يفسر لنا علة حركة الكواكب في حركة متسقة، ولكن قانون الجاذبية لا يفسر وجود نفسه، فهنا القانون لا يتكلم بل العقل يقول لابد من وجود موجد لهذا القانون.
ومن القوانين العلمية الماء إذا بلغت حرارته مائة درجة يغلي ، وبهذا القانون نحن يمكن أن نفسر ظاهرة الغليان، و نتقول في الإجابة عن سبب الغليان بلغ الدرجة المعينة، ، فالقانون يفسر لنا الظاهرة، ولكن هل يمكن هذا القانون أن يفسر وجود نفسه؟ لماذا في الكون يوجد هذا القانون ويحكم بعض الظواهر هذا القانون؟ فنفس القانون لا يفسر وجوده، وعليه فلابد من وجود موجود خلق الكون وجعل فيه هذه القوانين.
أصحاب نظرية الجهل والخوف يتصورون أننا نحتاج إلى الله تبارك وتعالى في تفسير وجود الظاهرة، فقالوا الإنسان البدائي لأنه يجهل أسباب الظواهر كان يؤمن بوجود الله، ولكن بعد أن عرفت أسباب الظواهر وهي القوانين فلا داعي إلى فكرة وجود الله تبارك وتعالى، مع أننا نحتاج إلى فكرة وجود الله كما يقول إسحاق نيوتن في تبرير وجود الظواهر والقوانين التي تفسر هذه الظواهر.
أينشتاين لعله أكبر عقل في القرن المنصرم عنده كتاب اسمه (العالم كما أراه أنا) يقول فيه: هذا الإيمان القلبي العميق والاعتقاد بوجود قوة حكيمة عليا يمكن أن ندركه من خلال هذا الكون الغامض الذي يعطينا فهماً وفكرة عن هذا الإله.
فالكون يدل على وجود الله، هذا النظام يدل على وجود منظم، إذا تدبرنا في الكون فإنّ الكون يعطينا فكرة عن الله تبارك وتعالى.
في كتاب مائة عالم حصل على جائزة نوبل، ويوجد إحصائية تقول : إنّ 67% من العلماء الذين كرموا بجائزة نوبل كانوا يعتقدون بوجود الله تبارك وتعالى يعني أغلب العلماء المتخصصين الذين كرموا في جائزة نوبل يؤمنون بوجود الله تبارك وتعالى وهم أكبر العقول البشرية، وهم العباقرة في العلوم الطبيعية والإنسانية. فإذا كان أكثر العباقرة يؤمنون بوجود الله كيف يمكن أن نقول سبب الاعتقاد بوجود الله تعالى هو الجهل؟!
ويوجد كتاب أنصح المؤمنين بأن يقتنوه ويقرأوا فيه عنوانه: الله يتجلى في عصر العلم، وهو لمجموعة من العلماء المتخصصين من الغرب والشرق، يقدم كل عالم في تخصصه -في علم الرياضيات في علم الفيزياء مثلاً- دراسة ويثبت من مجال تخصصه وجود الله تبارك وتعالى.
إذن هذه النظرية نظرية باطلة.
النظرية الثانية: النظرية الماركسة.
وتوضيحها: أنّ الماركسيين عندهم قاعدة في باب المعرفة، تقول: كل نظرية وكل فكرة بل كل سلوك وعادة لها سبب واحد وهو الوضع الاقتصادي الذي يعيشه الإنسان، فوضعك الاقتصادي يحدد نوعية أفكارك، ويحدد طبيعة سلوكك، ولذا يطلق على النظرية الماركسية بالمادية التأريخية لأنها تفسر التأريخ و الأفكار والنظريات والحوادث تفسيراً مادياً وأصحابها يربطون كل شيء بالاقتصاد.
الماركسيون خصوصاً كبراء الماركسية –ماركس، انكلز، لينين- حاولوا أن يفسروا الاعتقاد بوجود الله تبارك وتعالى تفسيراً مادياً، وحاصل ما ذكروه هو إن الإنسان في بدايته يعيش مجتمعاً بسيطاً لا توجد فيه فكرة عن الإله، ثم تطور المجتمع ووجدت فيه الطبقية أي وجد في المجتمع طبقتان:
الطبقة الأولى: طبقة المستبدين الإقطاعيين الذين يتسلطون على الأرض وعلى وسائل الإنتاج والمنتج.
الطبقة الثانية: الطبقة المسحوقة والعمال.
ثم وقع نزاع بين هاتين الطبقتين، فأرادت الطبقة العاملة أن تخرج من سلطنة الطبقة الإقطاعية، فاضطر الإقطاعيون والأغنياء إلى إحداث فكرة وجود إله، حيث قالوا هناك إله وهو الذي خلق الطبقية، ويريد هذا النظام، وأي محاولة للتعدي على هذا النظام هو تحدي للإله وتعرض صاحبها للمسؤولية فيما إذا مات ، لهذا هم يذهبون إلى فكرة وجود الإله مخلوقة من قبل الإنسان الإقطاعي والمصلحي يريد من خلالها أن يخضع الفقراء ويبقيهم تحت سلطنته، فالإله لم يخلق الإنسان، بل الإنسان هو الذي خلق الإله من أجل مصالح اقتصادية، ولذا يقولون: الدين إفيون الشعوب الأغنياء والطبقة المتسلطة يخدرون به الفقراء والطبقة المسحوقة.
هذه النظرية فيها جهتان:
الجهة الأولى: بمثابة القاعدة، وهي التي تقول كل نظرية منشأها الوضع الاقتصادي، أي وضعك الاقتصادي هو منشأ أفكارك وأعتقاداتك.
الجهة الثانية: بمثابة تطبيق القاعدة، حيث قالوا الإيمان بوجود الله منشأه مادي اقتصادي وهو النزاع الطبقي بين العمال وبين الإقطاعيين.
نحن عندنا تعليقان على هذه النظرية:
التعليق الأول: وهو مرتبط بالجهة الأولى.
وهو أنّ النظرية الماركسية نظرية فاسدة لأنها توقع الإنسان في الشك وعدم إمكانية الجزم بأي حقيقة علمية، لأنهم يقولون أي نظرية سببها الاقتصاد، ونحن نعلم أنّ الوضع الاقتصادي وضع متأرجح، اليوم الوضع بكيفية وغداً بكيفية أخرى، إذا كان الوضع الاقتصادي متغير وهو منشأ الأفكار ومنشأ العقائد ومنشأ النظريات يلزم من ذلك أن تكون النظريات مشكوكة الحقانية لا يمكن أن أعتقد بصحة أي نظرية لأنني أقول لعل اعتقادي بصحتها بسبب وضعي الاقتصادي، غداً يتغير فاعتقد أنها باطلة، ما هو الضمان الذي يثبت لي صحة أنّ الأرض كروية وتدور حول الشمس؟ لعل وضعي الاقتصادي هو الذي جعلني اعتقد بهذه النظرية، ولعله إذا ارتفع الرصيد أو نزل اعتقد ببطلان ذلك.
إذن إذا كان منشأ الأفكار والنظريات في جميع العلوم الوضع الاقتصادي وهو متبدل يلزم أن لا أجزم بصحة أي نظرية، وهذا يوقعني في الشك، من هنا يواجه الماركسيون سؤالا جداً صعبا ومحيرا، وهو أنّ الماركسيون يقولون:
عندنا قاعدة تقول : كل نظرية تابعة للوضع الاقتصادي، ونحن نسأل عن نفس هذه القاعدة، هل هي تابعة للوضع الاقتصادي أو لا؟!
لينين الذي يعتقد بهذه النظرية لأنه كان يعيش وضعاً اقتصاديا معيناً اعتقد بهذه النظرية ولو تغير وضعه الاقتصادي يلزم أن يغير قوله فيها ، وبعبارة أخرى : نخاطب الماركسيين : هل نظريتكم تابعة لهذه الكلية (كل نظرية تابعة للوضع الاقتصادي أم لا)؟
إذا قالوا تابعة يلزم عدم اليقين بصحتها، فنحتمل أنها تتغير إذا تغير الوضع الاقتصادي.
وإذا قالوا ليست بتابعة: يلزم أن تكون نظريتهم مكذبة لنفسها، لأن النظرية تقول كل نظرية تابعة للوضع الاقتصادي بما في ذلك نظرية وجود إله، والآن ظهر عندنا نظرية ليست تابعة وهي النظرية الماركسية.
وعليه فمن يطلق رصاصة الرحمة على النظرية الماركسية اولا ، هو النظرية الماركسية نفسها!
التعليق الثاني: وهو مرتبط بالتطبيق.
هنالك أمران يثبتان أنّ نظرية الماركسية في معرفة الله تبارك وتعالى باطلة، وهما:
الأمر الأول: تاريخ الأديان.
نحن إذا قرأنا تأريخ الأديان نجد أنّ الديان الإلهية نشأت في بيئة الفقراء والمساكين (الطبقة العاملة)، وإليك بعض الأمثلة:
1) الدين اليهودي نشأ على يد نبي الله موسى على نبينا وآله وعليه أفضل الصلاة والتسليم، واحتضنه بني إسرائيل وكانوا من الطبقة المسحوقة، كان آل فرعون يستعبدنهم ، فالإقطاعيون في ذلك الزمان يقولون بعدم وجود إله، ويتبعون فرعون، بينما الطبقة الفقيرة هي التي كانت تؤمن بوجود الله {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ}(إبراهيم:6).
2) المسيحية فهي كانت على يد عيسى على نبينا وآله وعليه أفضل الصلاة والسلام، وكان حوله فقراء يفترشون الأرض ويلتحفون السماء كما هي وصيه صلوات الله وسلامه عليه، واستمروا في اضطهاد من قبل اليهود إلى سنة 313 لما تنصر الإمبراطور قسطنطين، فهم من الفقراء المسحوقة ومع ذلك كانوا إلهيين.
3) الدين الخاتم، كان على يد النبي الخاتم صلى الله عليه وآله، ورسول الله لم يكن إقطاعياً بل كان فقيراً يرعى الأغنام، حتى قال المشركون احتقاراً لوضعه الاقتصادي {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآَنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}(الزخرف:31)، فلم يكن غنياً وما كان إقطاعياً عنده مزارع وبساتين يريد أن يخضع فيها الفقراء والمساكين.
إذن تأريخ الأديان يكذب هذه النظرية ويبرهن أنّ الإيمان بالله تعالى بدأ على يد الفقراء والمساكين.
الأمر الثاني: سيرة الإلهيين.
حيث إنّ سيرتهم كانت على ترك الوضع الاقتصادي والدنيا وما فيها من أجل الإيمان بالله تبارك وتعالى، فالمؤمنون الحقيقيون كانوا يضحون بالوضع الاقتصادي من أجل عقيدتهم، ومثل هؤلاء لا يمكن أن يقال عقيدتهم نشأت من أجل الحفاظ على وضعهم الاقتصادي، فرسول الله صلى الله عليه وآله عرضت عليه الدنيا من أجل أن يتنازل عن عقيدته في التوحيد لله، حيث أرسل إليه المشركون ابن الربيعة وقال له يا بني: لقد جئت لقومك بأمر عظيم، فرقت فيه جمعهم وسفهت به أحلامهم وإني أعرض عليك أموراً انظر فيها لعلك تقبل بعضها، إنْ كنت تريد المال جمعنا لك من أموالنا وجعلناك الأغنى، وإنْ كنت تريد الشرف سودناك عليك فلم نقض في أمر دونك، وإنْ كنت تريد الملك جعلناك ملكاً علينا.
قال صلى الله عليه وآله: والله لو وضعتم الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك دونه ما تركته.
ثم بعد أن أصبح سلطاناً وحكم في المدينة، كانت معيشته صلى الله عليه وآله أنه لم يشبع ثلاثة أيام متصلة، كان فراشه من الجلد ومحشو بالليف، يتمكن صلى الله عليه وآله من الظفر بألوان الملذات، ولكنه ضحى بكل لذة من أجل لذة واحدة وهي رضا الله تبارك وتعالى.
وبعد رسول الله صلى الله عليه وآله وصيه وأخوه أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه، فكان يعمل في بستان ليهودي في المدينة يأخذ الأجرة يتصدق بها ويشد حجراً على بطنه ويبيت جائعاً يدخل عليه سويد بعد أن أعطي حقه في الحكم، فيجده جالساً على حصيرة بالية، فيقول يا أمير المؤمنين ملك المسلمين والحاكم على بيت المال وتأتيك الوفود والولاة، ألا يوجد في بيتك غير هذه الحصيرة البالية؟ فيلتفت إليه صلوات الله وسلامه عليه: ويقول يا سويد: (يا سويد، إن اللبيب لا يتأثث في دار النقلة وأمامنا دار المقامة، قد نقلنا إليها متاعنا، ونحن منقلبون إليها عن قريب)(موسوعة الإمام علي بن أبي طالب (ع) في الكتاب والسنة والتاريخ للريشهري ج9 ص346-347).
ويبلغه أن واليه على البصرة عثمان بن حنيف، لبى دعوة طويلة فيها ألوان الأطعمة، فيكتب إليه صلوات الله وسلامه عليه:
(أما بعد يا ابن حنيف فقد بلغني أن رجلا من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة فأسرعت إليها تستطاب لك الألوان وتنقل إليك الجفان، وما ظننت أنك تجيب إلى طعام قوم عائلهم مجفو. وغنيهم مدعو. فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم، فما اشتبه عليك علمه فالفظه، وما أيقنت بطيب وجوهه فنل منه ألا وإن لكل مأموم إماماً يقتدى به ويستضئ بنور علمه، ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه. ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينوني بورع واجتهاد، وعفة وسداد. فوالله ما كنزت من دنياكم تبرا، ولا ادخرت من غنائمها وفراً، ولا أعددت لبالي ثوبي طمراً. بلى كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلته السماء، فشحت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس آخرين. ونعم الحكم الله. وما أصنع بفدك وغير فدك والنفس مظانها في غد جدث، تنقطع في ظلمته آثارها، وتغيب أخبارها، وحفرة لو زيد في فسحتها وأوسعت يدا حافرها لاضغطها الحجر والمدر، وسد فرجها التراب المتراكم، وإنما هي نفسي أروضها بالتقوى لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر، وتثبت على جوانب المزلق. ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل ولباب هذا القمح ونسائج هذا القز، ولكن هيهات أن يغلبني هواي ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمة. ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع، أو أبيت مبطانا وحولي بطون غرثى وأكباد حرى؟ أو أكون كما قال القائل:
وحسبك داء أن تبيت ببطنة وحولك أكباد تحن إلى القد
أأقنع من نفسي بأن يقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر ، أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش)(نهج البلاغة -خطب الإمام عليه السلام- جج3 ص72).
هذا هو الإلهي الحقيقي الذي يؤمن بوجود الله تبارك وتعالى ويترجم إيمانه بوجود الله كسلوك ومثل أمير المؤمنين سيد الشهداء صلوات الله وسلامه عليه، فالإمام الحسين ضحى بكل ما عنده في سبيل الله تبارك وتعالى.
والحمد لله رب العالمين.
القيت المحاضرة بتاريخ: 2 / 1 / 1436 هـ

إلا رسول الله ( صلى الله عليه وآله)

كلام السائل :
السلام عليكم سماحة الشيخ ، انتشر مقال ينسب إلى شاعر من الشعراء بعنوان (خطاب إلى الموتى) قال فيه مخاطباً نبينا العظيم (صلى الله عليه وآله) الذي يزوره الشيعة والسنة : ( سألتفت للأموات قليلا لأقول لهم برحمة والديكم خفوا عنا قليلا لقد حملتمونا فوق ما نحتمل لقد حملنا قوت عيالنا نذورا ...! وعمرنا مراقدكم الشريفة وسكنا بالعراء .. بربكم تفاهموا مع خصومكم بأنفسكم ولاتجعلونا نحارب عنكم .. .. بربكم لابد يكون عندكم اشوية دم وترفعوا رؤوسكم من مراقدكم .... إنكم تنامون في قاع حفره بعمق أكثر من خمسة عشر مترا وأن لاتستكيع حتى الشياكين الوصول إليكم ، ولاضير على أجداثكم وأن الله ناصركم .. . . بربكم تحركوا قليلا .... بربكم أيها الموتى ارحمونا قليلا وانطقوا ارفعوا أصواتكم بأن أثقلنا عليكم وصنعنا منكم أوهاما وأصناما وضربنا بسببكم أعناق العالمين .. . . أيها الموتى الذين مازلنا نهرق ماء وجوهنا لدى قبورهم ، ونسفك دماءنا لأجلهم قولوا لأبنائكم أن ترابكم قد غرق بما سفك ، وأن الذهب المرصع على كل ناحية من حضراتكم الشريفة قد صبغ بلون أحمر .. تبا لكم إن لم تنتبهوا قليلا لتوقفوا هذه المهزلة التي تدور باسمكم .. تبا لكم إن لم تطلوا علينا من وراء الغيب لتنبؤونا أن قد أخطأنا الطريق والطريقة إليكم .. تبا لكم إن لم تفصحوا أن ما نحن به من صراخ وصياح وشغل شاغل وذهاب إليكم وإياب منكم إنما هو مجرد عبث ورهق .. تبا لكم إن نمتم طويلا هانئين منعمين وأجيال من أبنائكم يتقاتلون لما اختلفتم فيه من الحق أو الباطل .. تبا لكم إذ لم تعرفوا أن تتركوا لنا سوى ما يوغر الصدور ويؤجج الفتن .. سماحا أيها الموتى قد أكون عتبت كثيرا ولمت أكثر لكن ربما هو قدر العقلاء أن لايجدوا سوى الموتى ليعتبوا عليهم وسوى الماضين ليحملوهم جريرة الآتين .. سماحا أن قد غرقنا في وحل الدماء التي نسيتم بعد المعركة أن تردموه ، وأن تعثرنا في بقايا الجثث التي لم تعرفوا بعد حروبكم أن تواروها كما وارى الغراب جثة أخيه .. تبا لكم ولنا وويل لكم ولنا .. بربكم دعونا قليلا وشأننا .. إن بنا حنينا لإخواننا ، وبنا توق إلى إنسانيتنا ، وشوق إلى آدميتنا .. بربكم فلوا عنا قليلا .. لم نعد نريدكم أوصياء ولاشفعاء دعونا نمضي لربنا وحدنا كما مضيتم لربكم وحدكم ولاتثريب علينا ولاعليكم...).
لو يسمح وقتك شيخنا عندي بعض الأسئلة ، وأتمنى أن تجيب عليها :
1ـ هل يعتبر هذا الكلام سبا لرسول الله (صلى الله عليه وآله)؟
2ـ ما هو موقف علماء المسلمين الشيعة والسنة من من سب رسول الله (صلى الله عليه وآله) ؟
3ـ ماذا ينبغي علينا اجتماعياً اتجاه من ينتقص النبي (صلى الله عليه وآله) أو يخاطبه بمثل هذا الخطاب ؟. 
الجواب :
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين:
وبعد :
شكراً لكم أخي السائل الكريم على طرح هذا الأسئلة المهمة ، والتي ينبغي أن يتأمل في جوابها كل مسلم محب لرسول الله (صلى الله عليه وآله) عنوان عزتنا ومن به فخرنا ، ولولاه لكنا في ضلال مبين وجهل مطبق ، ونعم ما قالت ابنته الصديقة الزهراء (عليها السلام) : ( فأنار الله بأبي محمد ص ظلمها وكشف عن القلوب بهمها وجلى عن الأبصار غممها وقام في الناس بالهداية فأنقذهم من الغواية وبصرهم من العماية وهداهم إلى الدين القويم ودعاهم إلى الطريق المستقيم ... وكنتم على شفا حفرة من النار مذقة الشارب ونهزة الطامع وقبسة العجلان وموطئ الأقدام تشربون الطرق وتقتاتون القد أذلة خاسئين تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم فأنقذكم الله تبارك وتعالى بمحمد ص بعد اللتيا والتي وبعد أن مني ببهم الرجال وذؤبان العرب ومردة أهل الكتاب كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله أو نجم قرن الشيطان أو فغرت فاغرة من المشركين قذف أخاه في لهواتها فلا ينكفئ حتى يطأ جناحها بأخمصه ويخمد لهبها بسيفه مكدودا في ذات الله مجتهدا في أمر الله قريبا من رسول الله سيدا في أولياء الله مشمرا ناصحا مجدا كادحا لا تأخذه في الله لومة لائم وأنتم في رفاهية من العيش وادعون فاكهون آمنون تتربصون بنا الدوائر وتتوكفون الأخبار وتنكصون عند النزال وتفرون من القتال). 
لهذا لرسول الله (صلى الله عليه وآله) علينا حق عظيم يدركه عامة المسلمين الشيعة والسنة ، و ليست هذه الانتفاضة العظيمة التي قام بها المسلمون على الرسومات المسيئة و الفلم الأمريكي الساقط والإنكار العام على ما يحاول الفرنسيون نشره تحت ذريعة حرية الفكر والتعبير إلا دليلا قطعياً على غيرة المسلمين على نبيهم وأنه عندهم من الخطوط الحمراء التي لا يجوز تجاوزها تحت أي ذريعة وأي مبرر ، وأن من يقدم على تنقيص النبي (صلى الله عليه وآله) فهو مبغوض منبوذ ، ولا بد وأن ينال جزاءه في الدنيا و الآخرة .
إن حب الرسول والغيرة عليه من صفات المؤمن الصادق في إيمانه ، قال تعالى : قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (التوبة:24. وروي عن رسول الله -صلى الله عليه وآله سلم-: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين).
وانطلاقاً من هذا أخي الكريم سوف أجيب على أسئلتك هذه :
السؤال الأول : هل يعتبر هذا الكلام سبا لرسول الله (صلى الله عليه وآله)؟
وفي مقام الجواب أذكر أموراً ثلاثة :
الأمر الأول : في حقيقة السب في اللغة وعرف العرب.
كثير من الناس يتصورون أن السب منحصر في القذف أو الكلام الفاحش وبعض يقصره في الألفاظ الدراجة من الفحش ، وليس الأمر كذلك ، فإن السب في اللغة والعرف أعم من ذلك فإن حقيقته : ذكر الشخص بما يوجب النقص في جسمه أو عقله أو صفاته أو أفعاله أو نسبه وحسبه وعرضه ، سواء كان الشخص المذكور بالنقص حاضراً مخاطباً أو لا ، موجوداً فيه النقص أو لا ، وإليك بعض كلمات اللغويين .
قال في الصحاح : وسبه يسبه ، إذا طعنه. ج2 ص145. 
قال في مجمع البحرين: الشتم : السب ، بأن تصف الشىء بما هو إزراء ونقص. مجمع البحرين : ج2 ص 481.
وقال في معجم مقايسس اللغة ج 1ص64: ( سب ) السين والباء حده بعض أهل اللغة وأظنه ابن دريد أن أصل هذا الباب القطع ثم اشتق منه الشتم ، وهذا الذي قاله صحيح وأكثر الباب موضوع عليه من ذلك السب الخمار لأنه مقطوع من منسجه فأما الأصل فالسب العقر يقال سببت الناقة إذا عقرتها... وقوله سب أي عقر والسب الشتم ولا قطيعة أقطع من الشتم...).
وهذا يدل على أن السب هو كل كلام فيه قطع للمتكلم عنه ، وهذا عام لا يختص بالقذف أو كلام الفحش ، وإنما يشمل على ما دل على النقص والازدراء ، ولهذا قال السيد العاملي (رحمه الله) في مفتاح الكرامة: الشتم السب بأن تصف الشيء بما هو إزراء ونقص ، فيدخل في السب كل ما يوجب الأذى كالقذف والحقير والوضيع والكلب والكافر والمرتد والتعيير بشيء من بلاء الله كالأجذم والأبرص. . مفتاح الكرامة ج12 ص 222.
وقد نقل ابن تيمية في الصارم المسلول أمثلة متعددة للسب والشتم وما يدل على الازدراء برسول الله (صلى الله عليه وآله) عن القاضي عياض فقال : ( قال القاضي عياض: "جميع من سب النبي صلى الله عليه وسلم أو عابه أو ألحق به نقصا في نفسه أو نسبه أو دينه أو خصلة من خصاله أو عرض به أو شبهة بشيء على طريق السب له والإزراء عليه أو البغض منه والعيب له فهو ساب له والحكم فيه حكم الساب: يقتل ولا نستثن فصلا من فصول هذا الباب عن هذا المقصد ولا تمتر فيه تصريحا كان أو تلويحا وكذلك من لعنه أو تمنى مضرة له أو دعا عليه أو نسب إليه ما لا يليق بمنصبه على طريق الذم أو عيبه في جهته العزيزة بسخف من الكلام وهجر ومنكر من القول وزور أو عيره بشيء مما يجري من البلاء والمحنة عليه أو غمضه ببعض العوارض البشرية الجائزة والمعهودة لديه قال: هذا كله إجماع من العلماء وأئمة الفتوى من لدن أصحابه وهلم جرا".).
ثم قال ابن تيمية : ( قال ابن القاسم : من سب النبي صلى الله عليه وسلم قتل ولم يستتب" قال ابن القاسم: "أو شتمه أو عابه أو تنقصه فإنه يقتل كالزنديق وقد فرض الله توقيره". وكذلك قال مالك في رواية المدنيين عنه: "من سب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو شتمه أو عابه أو تنقصه قتل مسلما كان أو كافرا ولا يستتاب". وروى ابن وهب عن مالك من قال: "إن رداء النبي صلى الله عليه وسلم ويروى برده "وسخ" وأراد به عيبه قتل". وذكر بعض المالكية إجماع العلماء على أن من دعا على نبي من الأنبياء بالويل أو بشيء من المكروه أنه يقتل بلا استتابة. وذكر القاضي عياض أجوبة جماعة من فقهاء المالكية المشاهير بالقتل بلا استتابة في قضايا متعددة أفتى في كل قضية بعضهم: منها: رجل سمع قوما يتذاكرون صفة النبي صلى الله عليه وسلم إذ مر بهم رجل قبيح الوجه واللحية فقال: تريدون تعرفون صفته؟ هذا المار في خلقه ولحيته. ومنها: رجل قال: النبي صلى الله عليه وسلم أسود. ومنها: رجل قيل له: "لا وحق رسول الله" فقال: فعل الله برسول الله كذا وكذا ثم قيل له: ما تقول يا عدو الله فقال أشد من كلامه الأول ثم قال: إنما أردت برسول الله العقرب قالوا: لأن ادعاء للتأويل في لفظ صراح لا يقبل لأنه امتهان وهو غير معزر لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا موقر له فوجبت إباحة دمه. ومنها: عشار قال: أدوا شك إلى النبي أو قال: إن سألت أو جهلت فقد سأل النبي وجهل. ومنها: متفقه كان يستخف بالنبي صلى الله عليه وسلم ويسميه في أثناء مناظرته اليتيم وختن حيدره ويزعم أن زهده لم يكن قصدا ولو قدر على الطيبات لأكلها وأشباه هذا. قال: فهذا الباب كله مما عده العلماء سبا وتنقصا يجب قتل قائله لم يختلف في ذلك متقدمهم ومتأخرهم وإن اختلفوا في حكم قتله. وكذلك قال أبو حنيفة وأصحابه فيمن تنقصه أو برئ منه أو كذبه: "إنه مرتد" وكذلك قال أصحاب الشافعي: "كل من تعرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم بما فيه استهانة فهو كالسب الصريح" فإن الاستهانة بالنبي كفر وهل يتحتم فيه قتله أو يسقط بالتوبة؟ على الوجهين وقد نص الشافعي على هذا المعنى. فقد اتفقت نصوص العلماء من جميع الطوائف على أن التنقص به كفر مبيح للدم وهم في استتابته على ما تقدم من الخلاف ولا فرق في ذلك بين أن يقصد عيبه لكن المقصود شيء آخر حصل السب تبعا له أو لا يقصد شيئا من ذلك بل يهزل ويمزح أو يفعل غير ذلك. فهذا كله يشترك في هذا الحكم إذا كان القول نفسه سبا فإن الرجل يتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت يهوي بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب ومن قال ما هو سب وتنقص له فقد آذى الله ورسوله وهو مأخوذ بما يؤذي به الناس من القول الذي هو في نفسه أذى وإن لم يقصد).
الأمر الثاني : إن هذه المقالة التي نقلتها أخي السائل عن صاحب مقال : (خطاب إلى الموتى!) فيها عبارات كثيرة تدل على الازدراء والتنقيص والتهجم والاستخفاف بالنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله ) فالكاتب يقول بإسلوب تهكمي مستفز لمشاعر المسلمين قاطبة :
1ـ برحمة والديكم خفوا عنا قليلا .
2ـ لقد حملتمونا فوق ما نحتمل .
3ـ بربكم لابد يكون عندكم اشوية دم وترفعوا رؤوسكم من مراقدكم.
4ـ إنكم تنامون في قاع حفره بعمق أكثر من خمسة عشر مترا وأن لاتستطيع حتى الشياكين الوصول إليكم .
5ـ بربكم أيها الموتى ارحمونا قليلا وانطقوا ارفعوا أصواتكم .
6ـ تبا لكم إن لم تنتبهوا قليلا لتوقفوا هذه المهزلة التي تدور باسمكم .. تبا لكم إن لم تطلوا علينا من وراء الغيب لتنبؤونا أن قد أخطأنا الطريق والطريقة إليكم .. تبا لكم إن لم تفصحوا أن ما نحن به من صراخ وصياح وشغل شاغل وذهاب إليكم وإياب منكم إنما هو مجرد عبث ورهق .. تبا لكم إن نمتم طويلا هانئين منعمين وأجيال من أبنائكم يتقاتلون لما اختلفتم فيه من الحق أو الباطل .
7 ـ لم تعرفوا أن تتركوا لنا سوى ما يوغر الصدور ويؤجج الفتن ..
8ـ تعثرنا في بقايا الجثث التي لم تعرفوا بعد حروبكم أن تواروها كما وارى الغراب جثة أخيه .
9ـ تبا لكم ولنا وويل لكم ولنا .
10 ـ بربكم دعونا قليلا وشأننا .
11ـ بربكم فلوا عنا قليلا .
12ـ لم نعد نريدكم أوصياء و لاشفعاء .
وإذا لم يكن هذا سبا واستخفافا وازدراء وانتقاصا ، فما عساه يكون!
إن من الواضح البين أن المتنازعين في أكثر من بلاد إسلامي يقصدون قبر النبي (صلى الله عليه وآله) من أجل زيارته والسلام عليه ، نعم بعضهم يحرم شد الرحال لزيارته ، ولكن لا يحرم السلام عليه ، ولا يجيز أن يقال للنبي (صلى الله عليه وآله): (تباً لك و ويل لك) كما لا يجيز أن يقال ذلك لآل النبي والصحابة الذي يزورهم بعض المسلمين ، فهناك فرق بين أن تُخطّئ من يزور النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله) والآل والصحابة وبين أن تخاطب النبي (صلى الله عليه وآله) والآل والصحابة المخلصين بهذا الخطاب المشين الذي يندى له جبين الحر الغيور ، بل يكاد يموت منه أسفاً .
لو لم يكن في هذا الخطاب إلا قول الكاتب تباً ! لكفى للحكم عليه بنفس الحكم الذي حكم به علماء الإسلام على أصحاب الرسومات الدنمركية المشينة والفلم الأمريكي الساقط ، فإن تباً دعوة بالهلاك والخسران ، قال في العين ج 8 ص 110: تبا لفلان تتبيبا ، ويقال : تبا لفلان تبيبا ، و التباب الهلاك ، قال :
أرى طول الحياة وأن تأتى * تصيره الدهور إلى تباب
وقال الأنباري في الزاهر ص 353: قولهم : تبا لفلان قال أبو بكر : معناه : خسارا له وهلاكا . قال اللَّه عز وجل : * ( تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وتَبَّ ) * معناه : خسرت يداه ، وقد خسر هو . وقال عز وجل : * ( وما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ ) * ، فمعناه : غير خسار وهلاك .
قال الشاعر :
عرادة من بقيّة قوم لوط * ألا تبّا لما عملوا تبابا
وقال الجوهري في الصحاح ج1 ص90 : [ تبب ] التباب : الخسران والهلاك . تقول منه : تب تبابا ، وتبت يداه ، وتقول : تبا لفلان ، تنصبه على المصدر بإضمار فعل ، أي ألزمه الله هلاكا وخسرانا . وتببوهم تتبيبا ، أي أهلكوهم .
وقال الطريحي في مجمع البحرين ج2 ص 12: ( تبب ) قوله تعالى : تبت يدا أبي لهب وتب أي خسرت يدا أبي لهب وخسر هو . والتباب : الخسران والهلاك ويقال : تبا لك منصوب بإضمار فعل واجب الحذف ، أي ألزمك الله خسرانا وهلاكا قوله تعالى وما زادوهم غير تتبيب أي غير نقصان وخسران يعني كلما دعاهم إلى الهدى ازدادوا تكذيبا فزادت خسارتهم .
الأمر الثالث : بعض الحدثيين يحاول أن يمرر هذا السخف من القول تحت لائحة حرية التعبير ، أو أن الكاتب وأمثاله لأنهم يعيشون حرقة الواقع المعاش وما فيه من الصراع والتناحر يستخدمون مثل هذه التعابير الساقطة والنابية والجارحة لمشاعر المسلمين والطاعنة في أقدس مقدساتهم ، وهو النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) و في الآل والصحابة .
وقد حاول الغرب سابقاً أن يمرر كلام سلمان رشد والرسومات المسيئة و فلم (براءة المسلمين Innocence of Muslims ) بنفس هذه الأعذار الواهية ، وقد سمعتها من الرئيس الأمريكي أوباما في خطابه في افتتاح الدورة 67 للجمعية العامة للأمم المتحدة ، وقد رفض المسلمون ذلك وأطلقوها صرخة مدوية في جميع القارات و البلاد والمدن والقرى : (إلا رسول الله صلى الله عليه وآله) ، وقد أخذت هذه الصرخة وجعلتها عنواناً لهذه المقالة ، ليعلم دعاة التنوير المزيف أن حرية الفكر والتعبير شعار زائف عندما يسمح بتشويه الحقيقة وتدنيس الطهر، إن الكلام الذي فيه تنقيص لرسول الله (صلى الله عليه وآله) مرفوض جملة وتفصيلاً ، ويحكم علماء الإسلام بأنه موجب للكفر وحلية الدم مطلقاً ـ كما سوف يأتي ـ ولا يقبل المسلمون له تبريراً ، بل إن التبرير في نظرهم جريمة أخرى تضاف إلى جريمة السب والتهجم والازدراء .
السؤال الثاني : ما هو موقف علماء المسلمين الشيعة والسنة من من سب رسول الله (صلى الله عليه وآله) ؟
الجواب : نتحدث في جواب هذا السؤال في مقامين :
المقام الأول : في نقل كلمات علماء الشيعة (أظهر الله برهانهم) ، وهي تدل على جواز قتل من طعن في النبي (صلى الله عليه وآله) وسبه ، أو استخف به ، وإليك بعض كلماتهم :
1ـ قال السيد المرتضى في الانتصار ص 486: ومما كأن الإمامية منفردة به : القول : بأن من سب النبي ( صلى الله عليه وآله ) مسلما كان أو ذميا قتل في الحال .
أقول : ومراده التفرد في قتل الذمي في الحال . 
2ـ قال ابن زهرة في الغنية ص 429: ويقتل من سب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وغيره من الأنبياء أو أحد الأئمة عليهم السلام ، وليس على من سمعه فسبق إلى قتله من غير استئذان لصاحب الأمر سبيل ، كل ذلك بدليل إجماع الطائفة.
3ـ قال المحقق في المختصر النافع ص 221: يقتل من سب النبي صلى الله عليه وسلم . وكذا من سب أحد الأئمة عليهم السلام . ويحل دمه لكل سامع إذا أمن.
4ـ وقال الشهيد الثاني في المسالك ج14ص452: قوله : ( من سب النبي . . . إلخ ) .هذا الحكم موضع وفاق ، وبه نصوص...).
5ـ قال السيد الخوئي في تكملة مباني المنهاج ج1 ص273: أما وجوب قتله ـ أي من سب النبي ـ مضافا إلى أنه لا خلاف فيه بل ادعى الاجماع عليه بقسميه - فلعدة روايات : ( منها ) - صحيحة هشام بن سالم عن أبي عبد الله ( ع ) : ( أنه سئل عمن شتم رسول الله صلى الله عليه وآله فقال ( ع ) يقتله الأدنى فالأدنى قبل أن يرفع إلى الإمام ) وأما عدم وجوبه مع الخوف فلاطلاق أدلة نفي الضرر ، ولخصوص صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر ( ع ) قال : ( إن رجلا من هذيل كان يسب رسول الله صلى الله عليه وآله - إلى أن قال - فقلت لأبي جعفر ( ع ) أرأيت لو أن رجلا الآن سب النبي صلى الله عليه وآله أيقتل ؟ قال : إن لم تخف على نفسك فاقتله ) .
المقام الثاني : في نقل كلمات علماء السنة . وهي تدل على جواز قتل من طعن في النبي (صلى الله عليه وآله) وسبه ، أو استخف به أيضاً ، وإليك بعض كلماتهم :
1ـ جاء في المجموع للنووي ج19 ص428: قال ابن بطال : اختلف العلماء فيمن سب النبي صلى الله عليه وسلم . فأما أهل العهد والذمة كاليهود فقال ابن القاسم عن مالك يقتل من سبه منهم إلا أن يسلم ، وأما المسلم فيقتل بغير استتابة ، ونقل ابن المنذر عن الليث والشافعي وأحمد وإسحاق مثله في حق اليهود نحوه وحكى عن عياض هل كان ترك من وقع منه ذلك لعدم التصريح أو لمصلحة التأليف ، ونقل عن بعض المالكية أنه لم يقتل اليهود الذين كانوا يقولون له السام عليك لأنهم لم تقم عليهم البينة بذلك ولا أقروا به فلم يقض فيهم بعلمه ، وقيل إنهم لما لم يظهروه ولووه بألسنتهم ترك قتلهم ، وقيل إنه لم يحمل ذلك منهم على السب بل على الدعاء بالموت الذي لا بد منه ، ولذلك قال في الرد عليهم وعليكم أي الموت نازل علينا وعليكم فلا معنى للدعاء به ، أشار إلى ذلك القاضي عياض واحتج الطحاوي لأصحابه بحديث أنس الذي فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقتل من كانوا يقولون له السام عليك ، وأيده بأن هذا الكلام لو صدر من مسلم لكانت ردة ، وأما صدوره من اليهودي فالذي هم عليه من الكفر أشد فلذلك لم يقتلهم النبي صلى الله عليه وسلم وتعقب بأن دمائهم لم تحقن إلا بالعهد وليس في العهد أنهم يسبون النبي صلى الله عليه وسلم فمن سبه منهم تعدى العهد فينقض فيصير كافرا بلا عهد فيهدر دمه إلا أن يسلم ويؤيده أنه لو كان كل ما يعتقدونه لا يؤاخذون به لكانوا لو قتلوا مسلما لو يقتلوا لان من معتقدهم حل دماء المسلمين ومع ذلك لو قتل منهم أحد مسلما قتل ، فإن قيل إنما يقتل بالمسلم قصاصا ، بدليل انه يقتل به ولو أسلم ، ولو سب ثم أسلم لم يقتل .
2ـ وفي فتاوى السبكي ج2 ص596: قال هشام بن عمار سمعت مالكا يقول من سب أبا بكر وعمر جلد ومن سب عائشة رضي الله عنها قتل لأن الله تعالى يقول فيها يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين فمن رماها فقد خالف القرآن ومن خالف القرآن قتل قال ابن حزم هذا قول صحيح قال محمد بن سهل سمعت علي بن المديني يقول دخلت على أمير المؤمنين فقال لي أتعرف حديثا مسندا فيمن سب النبي صلى الله عليه وسلم فيقتل قلت نعم فذكرت له حديث عبد الرزاق عن معمر عن سماك بن الفضل عن عروة بن محمد عن رجل من بلقين قال كان رجل شتم النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم من يكفيني عدوا لي فقال خالد بن الوليد أنا فبعثه إليه فقتله فقال أمير المؤمنين ليس هذا مسندا هو عن رجل فقلت يا أمير المؤمنين بهذا يعرف هذا الرجل وقد بايع النبي صلى الله عليه وسلم وهو معروف فأمر لي بألف دينار قال ابن حزم هذا صحيح ندين به كفر من سب الرسول صلى الله عليه وسلم قال ابن حزم كل كفر شرك وكل شرك كفر وهما اسمان شرعيان أوقعهما الله على معنى واحد ونقلهما عن موضوعهما في اللغة إلى كل من أنكر شيئا من دين الإسلام يكون بإنكاره معاندا للرسول صلى الله عليه وسلم بعد بلوغ النذارة .
3ـ قال الصنعاني في سبل السلام ج 3 ص 266 : 7 - ( وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن أعمى كانت له أم ولد تشتم النبي صلى ا عليه وسلم وتقع فيه فينهاها فلا تنتهي ، فلما كان ذات ليلة أخذ المعول ) بكسر الميم وعين مهملة وفتح الواو ( فجعله في بطنها واتكأ عليه فقتلها فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ألا اشهدوا فإن دمها هدر رواه أبو داود ورواته ثقات ) . الحديث دليل على أنه يقتل من سب النبي صلى الله عليه وسلم ويهدر دمه فإن كان مسلما كان سبه له صلى الله عليه وسلم ردة فيقتل قال ابن ابطال : من غير استتابة . ونقل ابن المنذر عن الأوزاعي والليث أنه يستتاب ، وإن كان من العهد فإنه يقتل إلا أن يسلم . ونقل ابن المنذر عن الليث والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق أنه يقتل أيضا من غير استتابة . وعن الحنفية أنه يعزر المعاهد ولا يقتل ...).
4ـ قال ابن حجر في فتح الباري ج12 ص 248: نقل ابن المنذر الاتفاق على من سب النبي صلى الله عليه وسلم صريحا وجب قتله ونقل أبو بكر الفارسي أحد أئمة الشافعية في كتاب الاجماع أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم مما هو قذف صريح كفر باتفاق العلماء فلو تاب لم يسقط عنه القتل لان حد قذفه القتل وحد القذف لا يسقط بالتوبة وخالفه القفال فقال كفر بالسب فيسقط القتل بالاسلام وقال الصيدلاني يزول القتل ويجب حد القذف وضعفه الامام فان عرض فقال الخطابي لا أعلم خلافا في وجوب قتله إذا كان مسلما.
5ـ قال السيد سابق في فقه السنة ج 2 ص454: ومن الأمثلة الدالة على الكفر ...4 - سب النبي أو الاستهزاء فيه ، وكذا سب أي نبي من أنبياء الله. 5 - سب الدين ، والطعن في الكتاب والسنة ، وترك الحكم بهما ،وتفضيل القوانين الوضعية عليهما .
6ـ وقال المرداوي في الإنصاف ج3 ص 257: وقيل يتعين قتل من سب النبي صلى الله عليه وسلم . قلت وهذا هو الصواب وجزم به في الإرشاد وابن البنا في الخصال وصاحب المستوعب والمحرر والنظم وغيرهم واختاره القاضي في الخلاف . وذكر الشيخ تقي الدين أن هذا هو الصحيح من المذهب . قال الزركشي يتعين قتله على المذهب وإن أسلم . قال الشارح وقال بعض أصحابنا فيمن سب النبي صلى الله عليه وسلم يقتل بكل حال وذكر أن أحمد نص عليه .
7ـ قال ابن تيمية في الصارم المسلول على شاتم الرسول : المسألة الأولى: أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم من مسلم أو كافر فإنه يجب قتله.
هذا مذهب عليه عامة أهل العلم قال ابن المنذر: "أجمع عوام أهل العلم على أن حد من سب النبي صلى الله عليه وسلم القتل" وممن قاله مالك والليث وأحمد وإسحاق وهو مذهب الشافعي.... وقد حكى أبو بكر الفارسي من أصحاب الشافعي إجماع المسلمين على أن حد من يسب النبي صلى الله عليه وسلم القتل كما أن حد من سب غيره الجلد وهذا الإجماع الذي حكاه هذا محمول على إجماع الصدر الأول من الصحابة والتابعين أو أنه أراد به إجماعهم على أن ساب النبي صلى الله عليه وسلم يجب قتله إذا كان مسلما وكذلك قيده القاضي عياض فقال: "أجمعت الأمة على قتل متنقصه من المسلمين وسابه"... وقال محمد بن سحنون: "أجمع العلماء على أن شاتم النبي صلى الله عليه وسلم المتنقص له كافر والوعيد جار عليه بعذاب الله له وحكمه عند الأمة القتل ومن شك في كفره وعذابه كفر".
وتحرير القول فيه: أن الساب إن كان مسلما فإنه يكفر ويقتل بغير خلاف وهو مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم وقد تقدم ممن حكى الإجماع على ذلك إسحاق بن راهوية وغيره وان كان ذميا فإنه يقتل أيضا في مذهب مالك وأهل المدينة وسيأتي حكاية ألفاظهم وهو مذهب أحمد وفقهاء الحديث. وقد نص أحمد على ذلك في مواضع متعددة قال حنبل: "سمعت أبا عبد الله يقول: "كل من شتم النبي صلى الله عليه وسلم أو تنقصه مسلما كان أو كافرا فعليه القتل وأرى أن يقتل ولا يستتاب" قال: وسمعت أبا عبد الله يقول: "كل من نقض العهد وأحدث في الإسلام حدثا مثل هذا رأيت عليه القتل ليس على هذا أعطوا العهد والذمة" وكذلك قال أبو الصفراء: "سألت أبا عبد الله عن رجل من أهل الذمة شتم النبي ماذا عليه؟ قال: إذا قامت عليه البينة يقتل من شتم النبي صلى الله عليه وسلم مسلما كان أو كافرا" رواهما الخلال.
وقال في رواية عبد الله وأبي طالب وقد سئل عن شتم النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقتل قيل له: فيه أحاديث؟ قال: نعم أحاديث منها: حديث الأعمى الذي قتل المرأة قال: سمعتها تشتم النبي صلى الله عليه وسلم وحديث حصين أن ابن عمر قال: "من شتم النبي صلى الله عليه وسلم قتل" وعمر ابن عبد العزيز يقول: "يقتل" وذلك أنه من شتم النبي صلى الله عليه وسلم فهو مرتد عن الإسلام ولا يشتم مسلم النبي صلى الله عليه وسلم زاد عبد الله: "سألت أبي عمن شتم النبي صلى الله عليه وسلم يستتاب قال: "قد وجب عليه القتل ولا يستتاب لأن خالد بن الوليد قتل رجلا شتم النبي صلى الله عليه وسلم ولم يستتبه" رواهما أبو بكر في الشافي وفي رواية أبي طالب: سئل أحمد عمن شتم النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقتل قد نقض العهد" وقال حرب: سألت أحمد عن رجل من أهل الذمة شتم النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقتل إذا شتم النبي صلى الله عليه وسلم" رواهما الخلال وقد نص على هذا في غير هذه الجوابات.
فأقواله كلها نص في وجوب قتله وفي أنه قد نقض العهد وليس عنه في هذا اختلاف. وكذلك ذكر عامة أصحابه متقدمهم ومتأخرهم لم يختلفوا في ذلك...).
وقال في الصارم المسلول أيضا : إن سب الله أو سب رسوله كفر ظاهرا وباطنا وسواء كان الساب يعتقد أن ذلك محرم أو كان مستحلا له أو كان ذاهلا عن اعتقاده هذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنة القائلين بأن الإيمان قول وعمل.
وقد قال الإمام أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم الحنظلي المعروف بابن راهويه وهو أحد الأئمة يعدل بالشافعي وأحمد: قد أجمع المسلمون أن من سب الله أو سب رسوله عليه الصلاة والسلام أو دفع شيئا مما أنزل الله أو قتل نبيا من أنبياء الله أنه كافر بذلك وإن كان مقرا بما أنزل الله).
هذا حكم من طعن في النبي (صلى الله عليه وآله) و انتقصه ونسب إليه ما لا يليق بساحته استهزاءاً واستخفافاً به ، فهناك عناوين متعددة يترتب عليها حكم واحد ، وهي السب والاستهزاء والسخرية ، قال السبكي في الفتاوى ج2 ص 573 : أما سب النبي صلى الله عليه وسلم فالإجماع منعقد على أنه كفر والاستهزاء به كفر قال الله تعالى أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم بل لو لم تستهزئوا قال أبو عبيد القاسم بن سلام فيمن حفظ شطر بيت مما هجي به النبي صلى الله عليه وسلم فهو كفر وقد ذكر بعض من ألف في الإجماع إجماع المسلمين على تحريم ما هجي به النبي صلى الله عليه وسلم وكتابته وقراءته وتركه متى وجد دون محوه .
و قال ابن قدامه في المغني ج1ذ0 ص 113: ومن سب الله تعالى كفر سواء كان مازحا أو جادا وكذلك من استهزأ بالله تعالى أو بآياته أو برسله أو كتبه . قال الله تعالى ( ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون ؟ لا تعتذروا قد كفرتم بعد ايمانكم ) وينبغي أن لا يكتفى من الهازئ بذلك بمجرد الاسلام حتى يؤدب أدبا يزجره عن ذلك فإنه إذا لم يكتف ممن سب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوبة فمن سب الله تعالى أولى.
وهل هنالك استخفاف أوضح من الأقوال التالية :
1ـ برحمة والديكم خفوا عنا قليلا .
2ـ لقد حملتمونا فوق ما نحتمل .
3ـ بربكم لابد يكون عندكم اشوية دم وترفعوا رؤوسكم من مراقدكم.
4ـ إنكم تنامون في قاع حفره بعمق أكثر من خمسة عشر مترا وأن لاتستطيع حتى الشياكين الوصول إليكم .
5ـ بربكم أيها الموتى ارحمونا قليلا وانطقوا ارفعوا أصواتكم .
6ـ تبا لكم إن لم تنتبهوا قليلا لتوقفوا هذه المهزلة التي تدور باسمكم .. تبا لكم إن لم تطلوا علينا من وراء الغيب لتنبؤونا أن قد أخطأنا الطريق والطريقة إليكم .. تبا لكم إن لم تفصحوا أن ما نحن به من صراخ وصياح وشغل شاغل وذهاب إليكم وإياب منكم إنما هو مجرد عبث ورهق .. تبا لكم إن نمتم طويلا هانئين منعمين وأجيال من أبنائكم يتقاتلون لما اختلفتم فيه من الحق أو الباطل .
7 ـ لم تعرفوا أن تتركوا لنا سوى ما يوغر الصدور ويؤجج الفتن ..
8ـ تعثرنا في بقايا الجثث التي لم تعرفوا بعد حروبكم أن تواروها كما وارى الغراب جثة أخيه .
9ـ تبا لكم ولنا وويل لكم ولنا .
10 ـ بربكم دعونا قليلا وشأننا .
11ـ بربكم فلوا عنا قليلا .
12ـ لم نعد نريدكم أوصياء و لاشفعاء .
السؤال الثالث: ماذا ينبغي علينا اجتماعياً اتجاه من ينتقص النبي (صلى الله عليه وآله) أو يخاطبه بمثل هذا الخطاب ؟
الجواب : ينبغي عدة أمور :
الأمر الأول : التصدي له بالرد وبيان جهله وسخف قوله .
ففي الصحيح ، عن داود بن سرحان عن أبي عبد الله عليه السلام قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : إذا رأيتم أهل الريب والبدع من بعدي فأظهروا البراءة منهم وأكثروا من سبهم والقول فيهم والوقيعة وباهتوهم كيلا يطمعوا في الفساد ويحذرهم الناس ولا يتعلمون من بدعهم يكتب الله لكم بذلك الحسنات ويرفع لكم به الدرجات في الآخرة.
إن السكوت عن أهل الباطل ، أو قِلت المتصدين للرد هو سبب جسارة أهل الضلال ، وتكلمهم بهذا الأسلوب الاستفزازي المفتقر إلى العقل والمنطق و الأدب واللباقة ، ولو وجدوا كبار المجتمع أصحاب التأثير أول من يصرح في منافحتهم عن الحق و مكافحتهم للضلال وأهله لما تجاسروا ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .
الأمر الثاني : مقاطعة أهل الريب والبدع والأهواء .
فإن الضال عن الحق ينبغي أن يُرشد ويأخذ بيده إلى سواء السبيل إذا لم يكن معانداً ومجاهراً بالاستهزاء بمقدسات الدين كالنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) والعقائد الحقة ، يقول تعالى : (أدعوا إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ).
وأما إذا كان معانداً مجاهراً بالاستهزاء مصراً على باطله ويرفض الحوار العلمي البناء ، فينبغي مقاطعته وتحذير الناس منه وحثهم على ترك مصاحبته ، ففي الكافي عقد الشيخ الكليني (رحمه الله) باباً بعنوان ( مجالسة أهل المعاصي ) ، أورد فيه عدة روايات منها :
1ـ عن الجعفري قال : سمعت أبا الحسن ( عليه السلام ) يقول : مالي رأيتك عند عبد الرحمن بن يعقوب ؟ فقال : إنه خالي ، فقال : إنه يقول في الله قولا عظيما ، يصف الله ولا يوصف ، فإما جلست معه وتركتنا وإما جلست معنا وتركته ؟ فقلت : هو يقول ما شاء أي شئ علي منه إذا لم أقل ما يقول ؟ فقال أبو الحسن ( عليه السلام ) : أما تخاف أن تنزل به نقمة فتصيبكم جميعا أما علمت بالذي كان من أصحاب موسى ( عليه السلام ) وكان أبوه من أصحاب فرعون فلما لحقت خيل فرعون موسى تخلف عنه ليعظ أباه فيلحقه بموسى فمضى أبوه وهو يراغمه حتى بلغا طرفا من البحر فغرقا جميعا فاتي موسى ( عليه السلام ) الخبر ، فقال : هو في رحمة الله ولكن النقمة إذا نزلت لم يكن لها عمن قارب المذنب دفاع .
2 - أبو علي الأشعري ، عن محمد بن عبد الجبار ، عن الرحمن بن أبي نجران
عن عمر بن يزيد ، عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) أنه قال : لا تصحبوا أهل البدع ولا تجالسوهم فتصيروا عند الناس كواحد منهم ، قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : المرء على دين خليله وقرينه .
3 - عن ميسر ، عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال : لا ينبغي للمسلم أن يواخي الفاجر ولا الأحمق ولا الكذاب .
4 ــ عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال : كان أمير المؤمنين ( صلوات الله عليه ) إذا صعد المنبر قال : ينبغي للمسلم أن يجتنب مواخاة ثلاثة : الماجن والأحمق والكذاب ...).
5ـ عن شعيب العقرقوفي قال ، سألت أبا عبد الله ( عليه السلام ) ، عن قول الله عز وجل : " وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزء بها . . إلى آخر الآية " فقال : إنما عنى بهذا : [ إذا سمعتم ] الرجل [ الذي ] يجحد الحق ويكذب به ويقع في الأئمة فقم من عنده ولا تقاعده كائنا من كان .
6 – عن عبد الاعلى بن أعين ، عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس مجلسا ينتقص فيه إمام أو يعاب فيه مؤمن .
7 - عن عبد الاعلى قال : سمعت أبا عبد الله ( عليه السلام ) يقول : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقعدن في مجلس يعاب فيه إمام أو ينتقص فيه مؤمن .
8- الحسين بن محمد ، عن علي بن محمد بن سعد ، عن محمد بن مسلم ، عن إسحاق ابن موسى قال : حدثني أخي وعمي ، عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال : ثلاثة مجالس يمقتها الله ويرسل نقمته على أهلها فلا تقاعدوهم ولا تجالسوهم : مجلسا فيه من يصف لسانه كذبا في فتياه ، ومجلسا ذكر أعدائنا فيه جديد وذكرنا فيه رث ، ، ومجلسا فيه من يصدعنا وأنت تعلم ، قال : ثم تلا أبو عبد الله ( عليه السلام ) ثلاث آيات من كتاب الله كأنما كن في فيه - أو قال [ في ] كفه - : " ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم " . " وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره " . " ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب ".
9 - عن عبيد بن زرارة ، عن أبيه ، عن أبي جعفر ( عليه السلام ) قال : من قعد في مجلس يسب فيه إمام من الأئمة ، يقدر على الانتصاب فلم يفعل ألبسه