Sunday, February 1, 2015

معرفة الله تعالى نداء الفطرة (1):

محاضرة لسماحة الشيخ حيدر السندي
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله العلي العظيم في كتابه الكريم: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}(الروم:30) آمنا بالله، صدق الله العلي العظيم.
تاريخ الاعتقاد بوجود الله تعالى:
الاعتقاد بوجود خالق ومدبر للكون كما أثبت علماء الآثار والتنقيبات ودلت عليه الرسوم القديمة المكتشفة من أقدم العقائد الملازمة للإنسان من يومه الأول وإلى يوم الناس هذا، فقد اكتشفت أقدم الرسومات الكهفية في كهف يسمى (الكستلو) في أسبانيا يعود تاريخ هذه الرسومات إلى أربعين ألف سنة، وقد قدمت دراسات حول هذه الرسومات ، نتيجة هذه الدراسات هي أنّ هذا الكهف بما فيه من الرسومات بحسب موقعه الذي لا يصلح للسكنى بسبب وعورة الطريق وصعوبة الوصول إليه ، إنما أعد لعبادة الإله والتقرب إليه، ولهذا أطلق على هذا الكهف اسم مشهور وهو كنيسة (سيستين)، أي المكان الذي أعد لعبادة الإله وتقريب القرابين فيه.
الاعتقاد بوجود الله تبارك وتعالى في عقيدتنا نحن المسلمون كان موجوداً مع الإنسان الأول، فالإنسان الأول كان نبياً أنزله الله تبارك وتعالى من السماء ، ومعه إيمانه بوجود الله وتوحيده تبارك وتعالى، استمر هذا الاعتقاد والإيمان يعبر القرون من الإنسان الأول إلى يوم الناس هذا، فأغلب الذين يعيشون على كوكب الأرض الآن يؤمنون بوجود إله.
الديانات الإلهية :
أغلب الناس ينتمون إلى ديانات ثلاث:
الديانة الأولى: الديانة المسيحية، وعدد المسيح يبلغ مليارين ومائتين مليون.
الديانة الثانية: الديانة الإسلامية، وعدد المسلمين مليار وستمائة مليون.
الديانة الثالثة: الديانة الهندوسية، وعدد الهندوس يبلغ مليار ومائة مليون.
ثم بعد هذه الديانات تأتي ديانات أقل عدداً مثل الزراشتدسة والهندوكية واليهودية، وكل هؤلاء يطبقون على الاعتقاد بوجود إله، نعم يختلفون في اسم الإله وفي صفته هل هو واحد أو متعدد.
إحصائيات في الاعتقاد بوجود الله:
مركز الدراسات الأمريكي المختص بدراسة المعتقدات (بيوفورم) قدم احصائية تقول 84% من مجموع سكان الأرض يؤمنون بوجود إله، يعتقدون أنّ للكون خالق وأنّ هنالك قدرة غيبية وراء عالم الطبيعة تدبرها، وهذا معناه أنّ الذين لا يعتقدون بوجود الله قلة، فالذين لا يؤمنون بوجود الله في الشرق الأوسط عددهم 2% وفي إفريقيا 3% وفي أوربا 13% والبقية يؤمنون بوجود إله .
أكبر عدد ذكر للملحدين 800 مليون، 150 مليون منهم هم الملحدون بما يسمى بالإلحاد القوي أو الموجب أي يعتقدون بعدم وجود إله، وأما البقية فيقولون لا ندري أيوجد إله أو لا؟
سبب الاعتقاد بوجود الإله:
السؤال الذي نريد الإجابة عليه هو : ما هو السبب الحقيقي وراء الاعتقاد بوجود إله، لماذا أغلب الناس يعتقدون بوجود خالق ومدبر للكون؟
في مقام الجواب قدمت نظريات متعددة، نقتصر على ذكر ثلاثٍ منها:
النظرية الأولى: نظرية الخوف والجهل.
يقول أصحاب هذه النظرية : إنّ الإنسان البدائي كان يخاف مجموعة من الظواهر الضارة التي تنهي حياته كالخوف من الزلازل والبراكين والأوبئة ونحوه، وكان لا يعرف سبب حدوث هذه الظواهر، فاعتقد بسبب خوفه وجهله بوجود قوة عظيمة وراء الكون هي التي تحدث هذه الظواهر، فأخذ يخضع لها ويقدم لها القرابين من أجل السلامة والعافية.
قال ويل ديورانت في كتابه المشهور قصة الحضارة: الخوف كما ذكر بعض الفلاسفة هو أول أمهات الآلهة. أي أنّ الآلهة لها أمهات ولدتها، فأول تلك الأمهات خوف الناس، فلأجل خوفهم أنتجوا فكرة الإله.
ثم قال: اشتركت عوامل متعددة في خلق الاعتقاد الديني منها الخوف من الموت.
أي بسبب خوفهم من الموت والانتقال وعدم علمهم بالمصير بعد الموت، اعتقدوا بوجود آلهة تنتظرهم في العالم الآخر، و إما أن تنتظرهم بالرحمة أو تنتظرهم بالعذاب.
وقال راسل الفيلسوف الانكليزي -الذي كان من المتحمسين في تبني هذه النظرية في بعض حياته-: لأنه ـ أي الإنسان ـ يجهل الأسباب الطبيعية اعتقد بوجود إله.
فلأنّ الإنسان لا يعلم أن سبب الزلزال تحرك صفائح الأرض أو سبب البركان ضعف القشرة الأرضية أو سبب الأمراض الفيروسات والبكتيريا، فهو يجد نفسه صحيحاً ثم في فترة يتحول إلى مريض لعدم علمه بسبب حدوث هذا المرض، يعتقد بوجود قوة أحدثت فيه المرض، مع أنه في الواقع دخل في جسمه فيروس وتمرض، فلو كان الإنسان أدرك الأسباب واستطاع أن يتنبأ بوقوع هذه الأسباب ويحذر من وقوع هذه الظواهر لما اعتقد بوجود إله، ولذا قال هناك علاقة بين انتشار العلم وانتشار الإلحاد فكلما توسع العلم وانتشر كلما اقترب الناس من الإلحاد ، وكلما ترسخ الجهل وانتشر اقترب الناس نحو الاعتقاد بوجود آله.
هذه النظرية فاسدة وتوجد عليها عدة ملاحظات نقتصر على ذكر اثنين منها:
الملاحظة الأولى: هي أنّ الواقع اليومي يكذب هذه النظرية، فإنّ اليوم هو يوم تطور العلوم وتفجر المعارف والمعلومات، الآن أغلب الناس يعلمون بأكثر الأسباب الطبيعية، فيعلمون أنّ سبب الزلازل تحرك صفائح الأرض، وسبب الأمراض والأوبئة فيروسات ومخلوقات بكتيرية، ومع ذلك أغلب الناس يؤمنون بوجود الله عز وجل، فأوربا مثلاً من أكثر الدول تطوراً في صعد وعلوم متعددة (الكيمياء، الرياضيات، الفلك، الفيزياء، الطب) إذْ الأوروبي يخضع لتعليم متطور جداً مع ذلك نسبة الملحدين في أوروبا 13% والأغلب يؤمنون بوجود الله تبارك وتعالى، فهذا دليل وبرهان على أنّ سبب الاعتقاد بالله ليس الجهل بأسباب هذه الظواهر المكروهة لأنه حصل العلم بها ومع ذلك الإيمان بالله تبارك وتعالى موجود، فلابد وأن نبحث عن سبب آخر.
الملاحظة الثانية: وهي أنّ أكبر العباقرة والمكتشفين وأصحاب التخصصات العلمية في مختلف الحقول المعرفية يعتقدون بأنّ للكون إلهاً، القائمة تبدأ من سقراط، أفلاطون، أرسطو، فارابي، ابن رشد، ابن سينا، غاليلو، إسحاق نيوتن، أينشتاين، فكلهم يؤمنون بوجود إليه مع أنهم عباقرة متخصصون عارفون بالأسباب الطبيعية لهذه الظواهر المكروهة.
إسحاق نيوتن من أكبر العقول العلمية التي عرفها التأريخ البشري، مايكل هارت صاحب كتاب العظماء المائة، ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله العظيم الأول، قال أعظم إنسان عرفه التاريخ رسول الله صلى الله عليه وآله، ثم ذكر بعده مباشرة إسحاق نيوتن، وبعده ذكر المسيح على نبينا وآله وعليه أفضل الصلاة والتسليم، نيوتن كان مؤمناً ومدافعاً عن الإيمان بوجود إله وخالق، ونقلت عنه عبارة ومشهورة، وهي: الجاذبية يمكن أن تفسر لنا حركات الكواكب ولكنها لا تفسر لنا من الذي جعلها متحرك؟ فالله يحكم كل شيء ويعلم بكل شيء.
قانون الجاذبية يمكن أن يفسر لنا الظاهر، فهو يفسر لنا علة حركة الكواكب في حركة متسقة، ولكن قانون الجاذبية لا يفسر وجود نفسه، فهنا القانون لا يتكلم بل العقل يقول لابد من وجود موجد لهذا القانون.
ومن القوانين العلمية الماء إذا بلغت حرارته مائة درجة يغلي ، وبهذا القانون نحن يمكن أن نفسر ظاهرة الغليان، و نتقول في الإجابة عن سبب الغليان بلغ الدرجة المعينة، ، فالقانون يفسر لنا الظاهرة، ولكن هل يمكن هذا القانون أن يفسر وجود نفسه؟ لماذا في الكون يوجد هذا القانون ويحكم بعض الظواهر هذا القانون؟ فنفس القانون لا يفسر وجوده، وعليه فلابد من وجود موجود خلق الكون وجعل فيه هذه القوانين.
أصحاب نظرية الجهل والخوف يتصورون أننا نحتاج إلى الله تبارك وتعالى في تفسير وجود الظاهرة، فقالوا الإنسان البدائي لأنه يجهل أسباب الظواهر كان يؤمن بوجود الله، ولكن بعد أن عرفت أسباب الظواهر وهي القوانين فلا داعي إلى فكرة وجود الله تبارك وتعالى، مع أننا نحتاج إلى فكرة وجود الله كما يقول إسحاق نيوتن في تبرير وجود الظواهر والقوانين التي تفسر هذه الظواهر.
أينشتاين لعله أكبر عقل في القرن المنصرم عنده كتاب اسمه (العالم كما أراه أنا) يقول فيه: هذا الإيمان القلبي العميق والاعتقاد بوجود قوة حكيمة عليا يمكن أن ندركه من خلال هذا الكون الغامض الذي يعطينا فهماً وفكرة عن هذا الإله.
فالكون يدل على وجود الله، هذا النظام يدل على وجود منظم، إذا تدبرنا في الكون فإنّ الكون يعطينا فكرة عن الله تبارك وتعالى.
في كتاب مائة عالم حصل على جائزة نوبل، ويوجد إحصائية تقول : إنّ 67% من العلماء الذين كرموا بجائزة نوبل كانوا يعتقدون بوجود الله تبارك وتعالى يعني أغلب العلماء المتخصصين الذين كرموا في جائزة نوبل يؤمنون بوجود الله تبارك وتعالى وهم أكبر العقول البشرية، وهم العباقرة في العلوم الطبيعية والإنسانية. فإذا كان أكثر العباقرة يؤمنون بوجود الله كيف يمكن أن نقول سبب الاعتقاد بوجود الله تعالى هو الجهل؟!
ويوجد كتاب أنصح المؤمنين بأن يقتنوه ويقرأوا فيه عنوانه: الله يتجلى في عصر العلم، وهو لمجموعة من العلماء المتخصصين من الغرب والشرق، يقدم كل عالم في تخصصه -في علم الرياضيات في علم الفيزياء مثلاً- دراسة ويثبت من مجال تخصصه وجود الله تبارك وتعالى.
إذن هذه النظرية نظرية باطلة.
النظرية الثانية: النظرية الماركسة.
وتوضيحها: أنّ الماركسيين عندهم قاعدة في باب المعرفة، تقول: كل نظرية وكل فكرة بل كل سلوك وعادة لها سبب واحد وهو الوضع الاقتصادي الذي يعيشه الإنسان، فوضعك الاقتصادي يحدد نوعية أفكارك، ويحدد طبيعة سلوكك، ولذا يطلق على النظرية الماركسية بالمادية التأريخية لأنها تفسر التأريخ و الأفكار والنظريات والحوادث تفسيراً مادياً وأصحابها يربطون كل شيء بالاقتصاد.
الماركسيون خصوصاً كبراء الماركسية –ماركس، انكلز، لينين- حاولوا أن يفسروا الاعتقاد بوجود الله تبارك وتعالى تفسيراً مادياً، وحاصل ما ذكروه هو إن الإنسان في بدايته يعيش مجتمعاً بسيطاً لا توجد فيه فكرة عن الإله، ثم تطور المجتمع ووجدت فيه الطبقية أي وجد في المجتمع طبقتان:
الطبقة الأولى: طبقة المستبدين الإقطاعيين الذين يتسلطون على الأرض وعلى وسائل الإنتاج والمنتج.
الطبقة الثانية: الطبقة المسحوقة والعمال.
ثم وقع نزاع بين هاتين الطبقتين، فأرادت الطبقة العاملة أن تخرج من سلطنة الطبقة الإقطاعية، فاضطر الإقطاعيون والأغنياء إلى إحداث فكرة وجود إله، حيث قالوا هناك إله وهو الذي خلق الطبقية، ويريد هذا النظام، وأي محاولة للتعدي على هذا النظام هو تحدي للإله وتعرض صاحبها للمسؤولية فيما إذا مات ، لهذا هم يذهبون إلى فكرة وجود الإله مخلوقة من قبل الإنسان الإقطاعي والمصلحي يريد من خلالها أن يخضع الفقراء ويبقيهم تحت سلطنته، فالإله لم يخلق الإنسان، بل الإنسان هو الذي خلق الإله من أجل مصالح اقتصادية، ولذا يقولون: الدين إفيون الشعوب الأغنياء والطبقة المتسلطة يخدرون به الفقراء والطبقة المسحوقة.
هذه النظرية فيها جهتان:
الجهة الأولى: بمثابة القاعدة، وهي التي تقول كل نظرية منشأها الوضع الاقتصادي، أي وضعك الاقتصادي هو منشأ أفكارك وأعتقاداتك.
الجهة الثانية: بمثابة تطبيق القاعدة، حيث قالوا الإيمان بوجود الله منشأه مادي اقتصادي وهو النزاع الطبقي بين العمال وبين الإقطاعيين.
نحن عندنا تعليقان على هذه النظرية:
التعليق الأول: وهو مرتبط بالجهة الأولى.
وهو أنّ النظرية الماركسية نظرية فاسدة لأنها توقع الإنسان في الشك وعدم إمكانية الجزم بأي حقيقة علمية، لأنهم يقولون أي نظرية سببها الاقتصاد، ونحن نعلم أنّ الوضع الاقتصادي وضع متأرجح، اليوم الوضع بكيفية وغداً بكيفية أخرى، إذا كان الوضع الاقتصادي متغير وهو منشأ الأفكار ومنشأ العقائد ومنشأ النظريات يلزم من ذلك أن تكون النظريات مشكوكة الحقانية لا يمكن أن أعتقد بصحة أي نظرية لأنني أقول لعل اعتقادي بصحتها بسبب وضعي الاقتصادي، غداً يتغير فاعتقد أنها باطلة، ما هو الضمان الذي يثبت لي صحة أنّ الأرض كروية وتدور حول الشمس؟ لعل وضعي الاقتصادي هو الذي جعلني اعتقد بهذه النظرية، ولعله إذا ارتفع الرصيد أو نزل اعتقد ببطلان ذلك.
إذن إذا كان منشأ الأفكار والنظريات في جميع العلوم الوضع الاقتصادي وهو متبدل يلزم أن لا أجزم بصحة أي نظرية، وهذا يوقعني في الشك، من هنا يواجه الماركسيون سؤالا جداً صعبا ومحيرا، وهو أنّ الماركسيون يقولون:
عندنا قاعدة تقول : كل نظرية تابعة للوضع الاقتصادي، ونحن نسأل عن نفس هذه القاعدة، هل هي تابعة للوضع الاقتصادي أو لا؟!
لينين الذي يعتقد بهذه النظرية لأنه كان يعيش وضعاً اقتصاديا معيناً اعتقد بهذه النظرية ولو تغير وضعه الاقتصادي يلزم أن يغير قوله فيها ، وبعبارة أخرى : نخاطب الماركسيين : هل نظريتكم تابعة لهذه الكلية (كل نظرية تابعة للوضع الاقتصادي أم لا)؟
إذا قالوا تابعة يلزم عدم اليقين بصحتها، فنحتمل أنها تتغير إذا تغير الوضع الاقتصادي.
وإذا قالوا ليست بتابعة: يلزم أن تكون نظريتهم مكذبة لنفسها، لأن النظرية تقول كل نظرية تابعة للوضع الاقتصادي بما في ذلك نظرية وجود إله، والآن ظهر عندنا نظرية ليست تابعة وهي النظرية الماركسية.
وعليه فمن يطلق رصاصة الرحمة على النظرية الماركسية اولا ، هو النظرية الماركسية نفسها!
التعليق الثاني: وهو مرتبط بالتطبيق.
هنالك أمران يثبتان أنّ نظرية الماركسية في معرفة الله تبارك وتعالى باطلة، وهما:
الأمر الأول: تاريخ الأديان.
نحن إذا قرأنا تأريخ الأديان نجد أنّ الديان الإلهية نشأت في بيئة الفقراء والمساكين (الطبقة العاملة)، وإليك بعض الأمثلة:
1) الدين اليهودي نشأ على يد نبي الله موسى على نبينا وآله وعليه أفضل الصلاة والتسليم، واحتضنه بني إسرائيل وكانوا من الطبقة المسحوقة، كان آل فرعون يستعبدنهم ، فالإقطاعيون في ذلك الزمان يقولون بعدم وجود إله، ويتبعون فرعون، بينما الطبقة الفقيرة هي التي كانت تؤمن بوجود الله {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ}(إبراهيم:6).
2) المسيحية فهي كانت على يد عيسى على نبينا وآله وعليه أفضل الصلاة والسلام، وكان حوله فقراء يفترشون الأرض ويلتحفون السماء كما هي وصيه صلوات الله وسلامه عليه، واستمروا في اضطهاد من قبل اليهود إلى سنة 313 لما تنصر الإمبراطور قسطنطين، فهم من الفقراء المسحوقة ومع ذلك كانوا إلهيين.
3) الدين الخاتم، كان على يد النبي الخاتم صلى الله عليه وآله، ورسول الله لم يكن إقطاعياً بل كان فقيراً يرعى الأغنام، حتى قال المشركون احتقاراً لوضعه الاقتصادي {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآَنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}(الزخرف:31)، فلم يكن غنياً وما كان إقطاعياً عنده مزارع وبساتين يريد أن يخضع فيها الفقراء والمساكين.
إذن تأريخ الأديان يكذب هذه النظرية ويبرهن أنّ الإيمان بالله تعالى بدأ على يد الفقراء والمساكين.
الأمر الثاني: سيرة الإلهيين.
حيث إنّ سيرتهم كانت على ترك الوضع الاقتصادي والدنيا وما فيها من أجل الإيمان بالله تبارك وتعالى، فالمؤمنون الحقيقيون كانوا يضحون بالوضع الاقتصادي من أجل عقيدتهم، ومثل هؤلاء لا يمكن أن يقال عقيدتهم نشأت من أجل الحفاظ على وضعهم الاقتصادي، فرسول الله صلى الله عليه وآله عرضت عليه الدنيا من أجل أن يتنازل عن عقيدته في التوحيد لله، حيث أرسل إليه المشركون ابن الربيعة وقال له يا بني: لقد جئت لقومك بأمر عظيم، فرقت فيه جمعهم وسفهت به أحلامهم وإني أعرض عليك أموراً انظر فيها لعلك تقبل بعضها، إنْ كنت تريد المال جمعنا لك من أموالنا وجعلناك الأغنى، وإنْ كنت تريد الشرف سودناك عليك فلم نقض في أمر دونك، وإنْ كنت تريد الملك جعلناك ملكاً علينا.
قال صلى الله عليه وآله: والله لو وضعتم الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك دونه ما تركته.
ثم بعد أن أصبح سلطاناً وحكم في المدينة، كانت معيشته صلى الله عليه وآله أنه لم يشبع ثلاثة أيام متصلة، كان فراشه من الجلد ومحشو بالليف، يتمكن صلى الله عليه وآله من الظفر بألوان الملذات، ولكنه ضحى بكل لذة من أجل لذة واحدة وهي رضا الله تبارك وتعالى.
وبعد رسول الله صلى الله عليه وآله وصيه وأخوه أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه، فكان يعمل في بستان ليهودي في المدينة يأخذ الأجرة يتصدق بها ويشد حجراً على بطنه ويبيت جائعاً يدخل عليه سويد بعد أن أعطي حقه في الحكم، فيجده جالساً على حصيرة بالية، فيقول يا أمير المؤمنين ملك المسلمين والحاكم على بيت المال وتأتيك الوفود والولاة، ألا يوجد في بيتك غير هذه الحصيرة البالية؟ فيلتفت إليه صلوات الله وسلامه عليه: ويقول يا سويد: (يا سويد، إن اللبيب لا يتأثث في دار النقلة وأمامنا دار المقامة، قد نقلنا إليها متاعنا، ونحن منقلبون إليها عن قريب)(موسوعة الإمام علي بن أبي طالب (ع) في الكتاب والسنة والتاريخ للريشهري ج9 ص346-347).
ويبلغه أن واليه على البصرة عثمان بن حنيف، لبى دعوة طويلة فيها ألوان الأطعمة، فيكتب إليه صلوات الله وسلامه عليه:
(أما بعد يا ابن حنيف فقد بلغني أن رجلا من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة فأسرعت إليها تستطاب لك الألوان وتنقل إليك الجفان، وما ظننت أنك تجيب إلى طعام قوم عائلهم مجفو. وغنيهم مدعو. فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم، فما اشتبه عليك علمه فالفظه، وما أيقنت بطيب وجوهه فنل منه ألا وإن لكل مأموم إماماً يقتدى به ويستضئ بنور علمه، ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه. ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينوني بورع واجتهاد، وعفة وسداد. فوالله ما كنزت من دنياكم تبرا، ولا ادخرت من غنائمها وفراً، ولا أعددت لبالي ثوبي طمراً. بلى كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلته السماء، فشحت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس آخرين. ونعم الحكم الله. وما أصنع بفدك وغير فدك والنفس مظانها في غد جدث، تنقطع في ظلمته آثارها، وتغيب أخبارها، وحفرة لو زيد في فسحتها وأوسعت يدا حافرها لاضغطها الحجر والمدر، وسد فرجها التراب المتراكم، وإنما هي نفسي أروضها بالتقوى لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر، وتثبت على جوانب المزلق. ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل ولباب هذا القمح ونسائج هذا القز، ولكن هيهات أن يغلبني هواي ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمة. ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع، أو أبيت مبطانا وحولي بطون غرثى وأكباد حرى؟ أو أكون كما قال القائل:
وحسبك داء أن تبيت ببطنة وحولك أكباد تحن إلى القد
أأقنع من نفسي بأن يقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر ، أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش)(نهج البلاغة -خطب الإمام عليه السلام- جج3 ص72).
هذا هو الإلهي الحقيقي الذي يؤمن بوجود الله تبارك وتعالى ويترجم إيمانه بوجود الله كسلوك ومثل أمير المؤمنين سيد الشهداء صلوات الله وسلامه عليه، فالإمام الحسين ضحى بكل ما عنده في سبيل الله تبارك وتعالى.
والحمد لله رب العالمين.
القيت المحاضرة بتاريخ: 2 / 1 / 1436 هـ

No comments:

Post a Comment