بقلم : حيدر السندي
السؤال : شيخنا الجليل لو تفضلتم بإلقاء الضوء على مصطلح (الهرمنيوطيقيا) فقد كثر الكلام حوله ، واستثمره بعض الحداثيين لكن يلغي حجية فهم الفقهاء ومرجعية الكتاب والسنة في قوانين الحياة؟
الجواب : بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين .
الكلام حول (الهرمنيوطيقيا) سوف يكون ضمن نقاط :
النقطة الأولى : تاريخ (الهرمنيوطيقيا).
(الهرمنيوطيقيا HERMENEUTIC) ترادف التفسير ، وإن كان مقصود أصحابها معنى مختلف نوع ما عن اصطلاح التفسير ويدنو من التأويل ، وقد قيل أن أصل الكلمة مشتق من (هرمس) وهو بحسب الأساطير اليونانية إله الرسائل المتداولة بين الألهية ، فمن (هرمس) هذا أشتق الفعل (HERMENEUIN) وهو بمعنى التفسير والتبيين ، ثم منه أشتق لفظ (الهرمنيوطيقيا HERMENEUTIC) راجع ساختار وهرمنوتيك ص 61.
ولعل أول ظهور (للهرمنيوطيقيا) كان في القرن السابع عشر حيث طبع أول كتاب باسمها في سنة 1654 (لدان هاور) ، وإن كانت مستخدمة قبل ذلك في القواعد العامة التي لابد منها في تفسير وتوضيح النص الديني ، ثم غادرت بعد ذلك مساحة النص الديني لتكون قواعد عامة لفهم كل نص سواء كان دينياً أو أدبياً أو علمياً ، بل (الهرمنيوطيقيا) تجاوزت جغرافيا النص في الوقت الراهن لتطال المواقف وتشخيص ما يسمى بدلالاتها الحالية والمقامية .
إن قواعد الفهم في (الهرمنيوطيقيا) تهتم بمعالجهة جهات متعددة ترتبط بالنصوص كحقيقة النص وفهمه وأصالة الملقي أو المتلقي وتأثير التراث والتقاليد على الفهم وهذا ما يعالج استقلالية النص كخزانة أمينة على مرادات المتكلم وأهمية هذه المرادات بالنسبة إلى مايفهمه المتلقي أو المفسر ، وعلى تقدير أمانة النص وكون مراد المؤلف هو المحور ، فهل يمكن اقتناص معانيه أم أن عملية التفسير تتأثر بعوامل متعددة خارجة عن سيطرة المفسر ، وهي تختلف باختلاف الزمان واللغة والبيئة ، وبالتالي لا يمكن الركون إلى معنى ثابت متاح للجميع مع وحدة النص ما دام الاشتراك في تلك العوامل المؤثرة متعذراً وطلبه طلب للمستحيل.
وحيث أن هذا القواعد المقررة للفهم قابلة للخلاف والتطوير ، فإن إخضاع النص الديني لها يوجب تأرجح المعاني المستفادة منها ، وهذا من الخطورة بمكان يسترعي اهتمام الباحثين في اللاهوت والتقنين الديني.
النقطة الثانية: مراحل (الهرمنيوطيقيا).
مرت (الهرمنيوطيقيا) بمراحل مختلفة و يختلف تعريفها باختلاف مراحلها وقد ذكر بعض الباحثين أن مراحلها ثلاث:
المرحلة الأولى : التأويلية الكلاسيكية، وهي عبارة عن منهج لفهم النص الديني في أول الأمر ثم تطورت لتصبح منهجاً لفهم كل نص بل وكل ما له دلالة وإن كان حالاً وموقفاً ومقاماً كما ألمحنا إلى ذلك سابقاً. ففي كتاب (إشكاليات القراءة) : مصطلح (الهرمنيوطيقيا) مصلح قديم ...يشير على مجموعة القواعد والمعايير التي يجب أن يتبعها المفسر لفهم النص الديني (الكتاب المقدس) .ص 13
وهذه المرحلة تجعل الأصالة للنص كحافظ أمين لمقصود الملقي أو المؤلف أو قصد صاحب الموقف ، و العصر الذهبي الذي ازدهرت فيه هذه المرحلة ، هو عصر النهضة وضعف بل سقوط مكانة الكنيسة ورجالها في أوربا ، حيث مست الحاجة إلي وضع قواعد الفهم (للكتاب المقدس) لتجنب الفهم السيء الذي عليه أقيمت محاكم التفتيش ونصبت المقاصل .
ومن هنا جاء تعريف (الهرمنيوطيقيا) في كتاب (دان هاور) بأنها : القواعد والمناهج اللازمة لتفسير الكتاب المقدس).
المرحلة الثانية : التأويلية الرومنسية.
وهي تهتم بوضع قواعد تجنب سوء الفهم ، والمؤسس لها (شلايرماخر ت 1834 ) وفي تصوري تختلف المرحلة الرومنسية عن سابقتها في ناحيتين:
الناحية الأولى : هي أن قواعد الفهم تقوم بدور واحد يمكن أن يعبر عنه بتعبيرين:
التعبير الأول : إصابة فهم المؤلف.
التعبير الثاني : عدم الوقوع في الخطأ بتوهم معنى آخر لا يقصده المؤلف.
والكلاسيكية أخذت التعبير الأول عنواناً لها ، بينما الرومنسية أخذت الثاني عنواناً لها ، وبالتالي هذه الناحية من الفرق لا تعدو كونها تعبيرية فلا تنفع لجعل الرومنسية مرحلة ثانية تختلف عن المرحلة الكلاسيكية ، خصوصاً إذا لا حظنا أن المرحلتين تشتركان في أصالة النص بما هو حافظ لمراد المتكلم وإمكان الوصول إلى معنى المؤلف ولو في بعض منعطفات الرومنسية.
الناحية الثاني: امتزاج القواعد الحاكمة في المرحلة الكلاسيكية بقواعد جديدة ما كنت موجودة ولها دخل في تحديد مراد المؤلف ، وهذا ما قام به (شلاير ماخر) بعد دراسته لمجموعة من الأبحاث ذات النزعة النفسية المؤثرة في علاقة المؤلف بالنص كالتجربة الدينية والتعددية والرومانسية الأدبية.
فقد أضاف (شلاير) أن للنص جانبا موضوعيا ثبتاً : وهو ما يفهم بمعرفة دلالات الكلمات والقواعد اللغوية الحاكمة على اللغة ، وهذا الجانب مشترك في كل نص بين المؤلف وجميع القراء ، وله ـ أيضا ـ جانباً آخر يعبر عنه بالجانب الذاتي أو النفسي ، وهو عبارة عن التجربة الثقافية الذاتية للمؤلف ، و الوصل إلى هذا الجانب مهم جداً لفهم مراد المؤلف ، ولكنه من جهة أخرى عسير جداً ، لأنه يتوقف على فهم المنطلقات الثقافية للمتكلم أو الكاتب ، وهذا يعني ضرورة فهم التجربة المعرفية الشخصية للملقي.
فإن الكتابة فن يعكس ما يحس به الكاتب ويشعر ، و عملية الكتابة أشبه بعملية الرسم ، فكما أن اللوحة تفاعل نفسي إحساسي ،و لهذا هي تعكس جانباً أبستملجيا من جهة وجانباً سيكيولجياً من جهة أخرى ، فكذلك النص المكتوب والملفوظ أيضاً .
و لا يبعد أن يكون قد تأثر في ذلك بالرومانسية الأدبية أو جذور التفسير الفني ، و قد كان لها شيوعاً عاماً في زمانه ، إلا أنه حاول أن يزاوج بين الجانب الكلاسيكي للتأويلية (الهرمنيوطيقيا) و الأدبية الرومانسية.
وعلي أي حال ، فإن (شلاير) انتهى إلى أن قواعد الفهم التي تعالج الجانب الموضوعي لا تنفع لفهم النص ، بل لا بد من دراسة الجانب الذاتي وفهم قواعده ، و حيث أن هذا الجانب معقد جداً خصوصاً مع اختلاف زماني المتكلم والمفسر ودرجة تفاوت المستوى الثقافي بينهما ، فالأصل أن يقع فيه الإنسان في الخطأ ، لهذا ينبغي أن يُهتم بدراسة قواعد تجنب سوء الفهم ، وبهذا بدأت مرحلة (الهرمنيوطيقيا الرومنسية) ، وهي مرحلة تطالب المفسر بالتحليق بعيداً عن موقعه الثقافي والنفسي إلى موقع الملقي والمؤلف للوقوف على الجوانب الذاتية لفهم النص .
وقد كان تعميم (الهرمنيوطيقيا) لغير النص الديني ، وغير النص المكتوب من نتائج (شلاير ماخر) ولعظم الدور الذي قام به في هذا الصدد عبر عنه (ديلتاي) بأنه : ( كانت الهرمنيوطيقيا).
وهذه المرحلة كسابقتها ترى أصالة للنص كحافظ لمراد المؤلف ، وأن القارئ يمكن أن يصل إلى مراد المتكلم المحدد وغير القابل للقراءات المتعددة ، ولكنها ترى الطريق إلى ذلك أكثر وعورة ومشقة ، وأن مراد المتكلم قد يكون أوسع مما تعطيه قواعد اللغة والمحاورة العامة ، و أن ادراكه يتوقف على ملاحظة السجل الثقافي للمتكلم كاملاً في جميع الصعد الثقافية ، وفي بعض كلماته (شلاير) يمكن أن يفهم المفسر كلام المتكلم بنحو أعمق من فهم المتكلم بسبب تطور العلوم وتراكمها التكاملي.
إن إشكالية ارتباط النص بالجانب النفس للمؤلف وصعوبة الوقوف على الخارطة الثقافية لأي مؤلف كانت في القرن التاسع تطال جميع العلوم الإنسانية بما في ذلك التاريخ ، فإن فهم التاريخ وتفسير قصاصاته والربط بينها يتوقف على فهم جميع الملابسات الحاكمة على الحدث في موقعه الزمني الخاص ، وحيث أن قارئ التاريخ لا ينتمي إلى ذلك الموقع ، فإن معطياته تبقى نسبية لا إطلاق فيها ، وللتخلص من هذه الاشكالية حاول (ديلتاي) أن يعمم القواعد التي ذكرها (شلاير) لفهم الجانب الذاتي من النص لجميع العلوم الانسانية بما فيها التاريخ ، وبهذا جعل (الهرمنيوطيقيا الرومنسية) متكفلة لوضع القواعد العامة التي تجنب الباحث سوء الفهم في جميع العلوم الانسانية والتاريخية.
المرحلة الثالثة : التأويلية الفلسفية .
وهي المرحلة التي تتعامل مع الفهم كموجود ما وتسعى من أجل معرفة حقيقته و إعطائه تفسيراً ، ففي المرحلة السابقين كانت (الهرمنيوطيقيا) منهجاً لفهم النص ، والتعامل فيها مع الفهم كان تعاملاً آلياً بالنسبة إلى النص ، وأما في هذه المرحلة فقد حذف النص وما عاد مهماً بقدر ذات الفهم الذي يراد أن يتعرف على حقيقته ، وقد بدأت (الهرمنيوطيقيا الفلسفية) على يد (مارتن هيدجر ت 1976) ولكن لم تصبح مذهباً واضح المعالم له تأثير عام في العلوم الإنسانية لاسيما اللسانيات منها إلا على يد تلميذه (غادامر) وقد صار هذا المذهب روحا لعدة من النظريات التي غلفت بعناوين أخرى ونسبت إلى أشخاص آخرين ومن تلك النظريات نظرية القبض والبسط في الشريعة التي تبناها الكاتب المعروف عبد الكريم سروش وادعاها لنفسه ، وليست في الحقيقة إلا تطبيقاً (للهرمنيوطيقيا الفلسفية) .
وترتكز هذه المرحلة على الأمور التالية :
الأمر الأول : هو المفسر أو المتلقي ، خاضع لثقافته وتجربه الذاتية الخاصة ، وفي تصوري أفاد (هيدجر) في هذا الأمر مما ذكر (شلاير) في الجانب الذاتي للنص ، ولكن طبقه على المتلقي وليس على الملقي ، لينتهي إلى أن كل مفسر يتأثر ببيئته الثقافية في فهم النص ، فالفهم القبلي والتركيب المعرفي والثقافي يحددان ما يفهمه كل مفسر .
وما يشكل البيئة الثقافي مجموعة أمور منها : (العادات والتراث و القيم والأخلاق والتفسيرات السابقة للنص ).
الأمر الثاني : الظروف الدخيلة في الجانب الذاتي للمتلقي ـ إن صح التعبير ـ ليست واحدة وإنما تختلف من مفسر إلى مفسر ، لأنها مختلفة من مكان إلى آخر ومتأرجحة متطورة وكائن حي ذو نمو من زمان إلى آخر ، ويصعب اتفاقها في مفسرين من جميع الجهات.
الأمر الثالث : حيث أن المفسر لا يمكن أن ينفك عن العوامل المؤثرة في الفهم والتي تختلف في المؤلف والمفسر من جهة وفي المفسر بالنسبة إلى مفسر آخر من جهة أخرى ، فلا بد وأن تكون المحورية للنص من جهة فهم المفسر لا مراد المؤلف ، وحيث أن المفسرين لا يمكن أن يجتمعوا على فهم واحد ، فالذي ينبغي أن تصب الجهود العلمية في حقل (الهرمنيوطيقيا ) لفهمه هو ذات الفهم المختلف والمتعدد ، ولهذا يرى (هيدجر) أن للنص شخصية مستقلة عن المؤلف ، فليس المهم معرفة قصد المؤلف وحدوده وإنما ما يفهمه الآخرون من النص . راجع هرمنوتيك مدرن ص 210.
الأمر الرابع : أن فهم النص كوجود مستقل في نفسه لا كموجود للمؤلف بقدر ما يملك المفسر من علم وثقافة ، فنوعية الأسئلة التي يطرحها المفسر هي التي تحدد الفهم ، وحيث أن الأسئلة تنبع من الرصيد الثقافي الذي يمتلكه المفسر ، فالمستوى الفهم مرهون بالمعلومات السابقة .راجع إشكاليات القراءة ص 36. وحيث أن المعلومات تتطور وكلما تطورت العلوم وتقدمت التجارب ، فإن الفهم لأي نص يتطور وبالتالي لا يمكن أن نظفر بفهم نهائي إلا في آخر لحظات اليوم الأخير من هذا الكون ، وهذا ما كان يكرره كثيرا سروش في نظريته القبض والبسط التي لا تعدو كونها ترجمة فارسة مع تطبيق خاص (للهرمنيوطيقيا الفلسفية).
إن الطابع العام لهذه الأمور المتقدمة يتمثل في ( أن المفسر هو المحور ، وأن النص ينفك عن مراد المؤلف ) وهذا الطابع العام تشترك فيه توجهات فكرية حديثة منها البنيوية التي ترى كل نص كالوثيقة ذات الرموز الخاصة ، ولكي يتحقق الفهم لا بد من فك الرموز بقطع النظر عن المؤلف ، فكما أن فتح أقفال الحديد بمفاتيحها من دون دخل للصانع ، فكذلك أقفال المعاني المتمثلة في النصوص ، من هنا عنون البنيوي (رولان بات) أحدى مقالاته بعنوان (موت المؤلف).
وبهذا يكون فهم المؤلف أحدى القراءات المتعددة ، ولا يعبر عن أكثر من لحظة احداث النص ، و بلحاظ الاستمرار يفقد تفرده في الفهم وتنازعه فيه أفهام جميع المفسرين ويكون المؤلف من حيث الحكم كأي مفسر من المفسرين ، ويمكن أن يمثل لهذه الاستقلالية بالتمثال ، فإنه ليس من المهم معرفة قصد الناحت وما كان يختلج في صدره حال عملية النحت ، وإنما المهم ملاحظة نفس النتاج كحالة ثابتة متعددة الأغراض يمكن أن يستلهم منها ما لم يكن وارداً في ذهن النحات نفسه .
الأمر الخامس : عدم وجود ميزان ومعيار يمكن أن نقيم به الأفهام المتعددة ، لأن لكل فهم مبرراته الذاتية ، كما أن كل معيار يذكر هو في نفسه فهم خاص خاضع لتجارب معرفية خاصة.
هذه تقريباً الملامح العامة (للهرمنيوطيقيا الفلسفية) فهي جدلية نسبية لا يوجد فيها جانب موضوعي ثابت وإن حاول بعض أصحابها أن يبرز جانباً موضوعياً كـ(ريكور و هيرش ) كترميم لبنسبية التي وقع فيها (مارتن هيدجر) و (غادامر) .
النقطة الثالثة: في تقييم المرحلة الرومنسية (للهرمنيوطيقيا).
هذه المرحلة فيها جهات مقبولة ولا يوجد مانع من تأييدها وقبولها كجعل فهم مراد المتكلم للنص محطاً للاهتمام بعد جعل مراد المتكلم هو المحور والنص هو الحافظ الأمين عليه فيما إذا روعيت ضوابط اللغة وقواعد المحاورة العامة ، نعم هناك جهات أخرى غير مقبولة منها :
الجهة الأولى : أن الجانب الذاتي للنص الذي ذكره (شلاير) ليس مطرداً في جميع النصوص بما فيها النص الديني ، فإن القرآن على سبيل المثال صادر عن الله تعالى ، والله ليس خاضعاً لظروف زمكانية خاصة وتجربة ثقافية شخصية ، وبالتالي لا نتصور في نصوص الشرع المقدسة جانباً ذاتياً وراء الجانب الموضوعي ، فينحصر الطريق في فهمها في معرفة القواعد العامة التي تحكم نظام التحاور في اللغة ، ولكن في زمن الخطاب لا زمن المتلقي ، نعم في النصوص التي تنقل بالمعنى يكون للكلام عن الجانب الذاتي مجال ، ومعالجته تتم إما بتحصيل الوثوق بالملابسات الذاتية ، أو الدليل القطعي على حجية ما يدل عليه النقل البديل الذي يفترض فيه أن يكون محافظا على النص الأصيل الذي يراد نقل معناه.
الجهة الثانية : دعوى إمكانية أن يفهم المفسر من النص أكثر مما يفهم المؤلف منه .
فإن هذه الدعوى محل تأمل في ظل (الهرمنيوطيقيا الرومنسية) التي تجعل الأصالة للنص بما هو حافظ لمراد المؤلف ، لأن الدلالات الزائدة حينئذ لن تكون مدلولاً للنص حال صدوره عن المؤلف ، وإنما للنص في نفسه بلحاظ المخزون الثقافي للمتلقي ، وأين هذا من فهم النص في جوه الخاص ، نعم يتصور هذا فيما إذا لم يحسن المؤلف تركيب المفردات فأضاف أو أنقص النص بنحو جعله يفيد معنى إضافياً أو آخر ، كما أنه يتصور فيما إذا كان للمعنى المفاد لوازم عقلية أو عرفية غفل عنها المتكلم مع عدم كونها جزءاً من المدلول الوضعي للمفردات النص نفسه.
وكيف كان فلا يعقل ذلك في النص الديني الصادر من الكامل المطلق الذي لا يعزب عنه شي وهو محيط بكل شيء.
النقطة الرابعة : في تقييم المرحلة الفلسفية (للهرمنيوطيقيا).
ويمكن أن يسجل عليها عدة ملاحظات :
الملاحظة الأولى : لزوم انسداد باب الحوار والتخاطب وفقد جمع النصوص لخاصية الحكاية ، بيان ذلك :
إن الغرض من التكلم والكتابة ليس إيجاب تلفظ بحروف أو رسم خصوص على لوح أو ورق ، وإنما إفادة المعاني ونقل ما في الذهن إلى ذهن آخر ، ولو لا أن المتكلم والكاتب يرى إمكانية فهم مراده من المتلقي لما أقدم على التكلم ، فلو قلنا بـ(الهرمنيوطيقيا الفلسفية) القاضية بأن الفهم مرهون بالمعلومات السابقة ومقدار ما يطرحه المفسر عن النص من أسئلة وأن هذه المعلومات والأسئلة لا يجتمع عليها اثنان سواء كان أحدهما مؤلف أو كانا مفسرين ، فلماذا يتكلم المتكلم ومراده لا يفهم ، وعن أي شيء يبحث المفسر في النصوص لتحصيل إقرار تارة أو إنكار أخرى ، أو شهادة ثالثة ، ولماذا أصحاب (الهرمنيوطيقيا الفلسفية) كتبوا الكتب لشرح نظريتهم وهم يعلمون بأن القارئ لكتبهم ونصوصهم مهما كان يختلف عنهم ولا يمكن أن يفهم كلامهم كما يفهمونه هم ! وهذا يلزم من تاريخية الفهم سد باب الخطاب والتحاور ومحاولة تفهم النصوص.
ومنا هنا أكل كل من (هابرماس) و (كارل اتو) على التأويلية الفلسفية بلزوم انسداد باب النقد والتقييم لأي نص أو تفسير.
الملاحظة الثانية : هي أن تعمم النسبية لجمع النصوص في غير محله، ولعل سبب الاشتباه من أصحاب هذه النظرية هو أنهم لا حظوا نوعين من الاختلافات الواقعة :
النوع الأول : الاختلاف العرضي بين المفسرين في كثير من النصوص المجملة والظاهرة .
وهذا قد يكون سببه اختلاف قوة المفسر في معرفة القواعد و القرائن وليس نسبيه الفهم في نفسه ، بمعنى أن تطبيق قواعد اللغة الثابتة مع ملاحظة القرائن العامة والخاصة من القواعد الثابتة والمحفوظة ، نعم قد يتفاوت مستوى المفسر في معرفة القواعد والقرائن ويختلف الفهم ، وليس هذا من تاريخية الفهم في شي.
النوع الثاني : الاختلاف الطولي كالاختلاف في حقيقة الشمس التي يدل عليها قوله تعالى : (إذا الشمس كورت) ، فكون الشمس جسم غازي أو صلب أصغر من الأرض أو أكبر مما وقع الخلاف فيه ، ولكن هذا الخلاف لا ربط له بدلالة الكلمة على معناها ، وقد يتصور أن هذا الاختلاف من مؤيدات نسبية الفهم ، وليس الأمر كذلك.
الملاحظة الثالثة : هي أن الكلام سواء كان مكتوباً أو ملفوظاً تارة يكون صريحاً لا يحتمل أكثر من معنى ، ودلالته على المقصود حينئذ قطعية ، كدلالة قولنا (جاء أحد عشر رجلاً) على العدد الخاص.
وأخرى تكون دلالته ظهورية يحتمل فيها أكثر من معنى ولكن أحدها هو الأقرب ، وهنا يكون المدار مدار الظاهر ولكن بحسب قواعد اللغة المشتركة الثابتة في زمن صدور النص وهو ما يعبر عنه علماء الأصول بالظهور الموضوعي ، في مقابل الذاتي الذي يتأثر بملابسات خاصة تختلف من مفسر إلى آخر ، وهذا الظهور هو مقصد العقلاء في باب التحاور إذ مطلوبهم تحصيل الوثوق المعتبر عقلائياً ، والعقلاء في كثير من العلوم لا يتحصلون على أكثر من الاطمئنان ، و يعولون عليه لأنه عندهم بمنزلة اليقين عملاً ، و تحصيل اليقين في القضايا بشكل عام نادر ولعله لا يتجاوز مسائل الفلسفة والرياضيات وما شاكلها في الوضوح.
وأما الكلام المجمل الذي فيه احتمالات متكافئة فلا عبر به إلى مع القرائن التي ترجح أحدى محتملاته .
الملاحظة الرابعة : من المشاهد وجود قضايا ذات فهم مشترك مع اختلاف الناس في الزمكان والعادات والثقافة ، ومنها قولك: (1+1=2) وقولك: (العلة أقوى من المعلول ) وقولك: ( المريض بحاجة إلى علاج) ، وهذه صخرة صلبة تتكسر عنها أمواج نسبية (الهرمنيوطيقيا الفلسفية) العامة.
فإن هذا يكشف لنا عن أن الفهم واحد مع اتحاد الظروف ، وهي قد تتحد في كثير من القضايا ، وإذا التفتنا إلى أن المكلم الحكيم هادف ويرد إيصال و لهذا يعتمد على قواعد المحاورات العامة الواضحة للجميع ، فالأصل فيه بمقتضى عقله وحكمته أن لا يوظف قرائن لها دخل في فهم المعنى ولكنها خاصة لا يدركها إلا هو ، وبهذا نقف على حكم النص الديني الصادر من الله الحكيم المحيط بجميع الحيثيات بامتداد عمود الزمان.
الملاحظة الخمسة : تفترض (الهرمنيوطيقيا الفلسفية) أن المعلومات السابقة تأثر على فهم النص ، وهذا صحيح بعد الالتفات إلى أمرين:
الأمر الأول : ما ذكرناه سابقاً من ضرورة التمييز بين الظهور الذاتي والموضوعي.
الأمر الثاني : أن المعلومات الأسئلة التي يطرحها المفسر على النص دورها استنطاق النص ، لا أن النص صامت فرغ من المعاني وهذا الأسئلة و تلك المعلومات تملؤه بالمعاني .
والمعلومات السابقة عند المفسر إما القواعد العامة للمحاورات كمعرفة دلالة الكلمات الأفرادية والتركيبية و القرينة وذي القرينة و الأساليب البيانية والبلاغية والتحسينات ونحوها مما يدرس في كتب اللغة وأصول الفقه ، وهذه ثابتة ، وأما معلومات توجب توارد ملزومات المعنى المفاد بالنص ، فتنقدح أسئلة في ذهن المفسر ، نظير معلومة أن العقاب لا يحسن إلا للعاقل التي تولد من قراءة قوله تعالى : (وإذا الوحوش حشرت) السؤال التالي : لماذا تحشر مع أنها لا تقبل الحساب لعدم العقل ؟
وهذه المعلومات تأثر في ما يستفاد من النص ولكن من جهلة تعميق المعنى طولاً و لا دخل لها في فهم المعنى من النص . نعم بعض هذه المعلومات قطعية كالقرائن العقلية وهي توجب تأويل النص أو تقييده وتخصيصه ، ومثل هذه المعلومات لا ننكر تأثيرها على الفهم ، ولكن هذا لا يعني نسبية الفهم لأن هذا القواعد يمكن أن يدركها جميع الناس ، ومن يغفل عنها ويزل فهمه ، لا يمكن أن يعد فهمه قراءة معتبرة وإنما هي اشتباه ، فكم فرق بين أن نعتبر هذا الاشتباه تفسيرا بالرأي ونلغيه من الاعتبار، وبين ما تدعو إليه (الهرمنيوطيقيا الفلسفية) من اعتباره أمراً ضرورياً لا تنفك عنه عملية الفهم .
الملاحظة السادسة : وهي تبتني على أدلة العقل بوجود الله وصدق النبي ، فإن النصوص الدينية الصادرة عنهم صراحة تفيد محورة النص ككاشف عن معنى ثابت هو مراد المتكلم ، ومن تلك النصوص الآيات الآمرة بالتمسك بالقرآن والعمل به وحديث التقلين ، و إرجاع المعصومين إلى أحاديث النبي (صلى الله عليه وآله) و الأئمة السابقين (عليهم السلام).
الملاحظة السابقة : إشكال الدور الذي أشار إليه (شلاير ماخر) حيث ذكر أنه لو كان فهم النص يتوقف كل المعلومات المرتبة بالمؤلف ، ومنها معرفة حياة حياته و لا يمكن الإحاطة بحياته إلا بفهم نصوصه فيتوقف فهم نصوصه على فهم نصوصه .
هذه وغيرها بعض الملاحظات التي ترد على (الهرمنيوطيقيا الفلسفية)التي أسست من بلاد الغرب وطار بها بعض مثقفي العرب والفرس فرحاً وأرادوا بها إسقاط حجية النص الديني ، وفهم الفقهاء المتخصصين المعتمدين في نتائجهم على قواعد الفهم المقررة عند العقلاء والشرع .
والحمد لله رب العالمين
No comments:
Post a Comment