Sunday, February 1, 2015

معرفة الله تعالى نداء الفطرة (2)

معرفة الله تعالى نداء الفطرة (2)
محاضرة لسماحة الشيخ حيدر السندي ( حفظه الله)
قال الله العلي العظيم في كتابه الكريم: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}(الروم:30) .
كان حديثنا ولا يزال حول سبب الاعتقاد بوجود إله مدبر للكون، في محاضرة سابقة تعرضنا لنظريتين: نظرية الخوف والجهل، نظرية الماركسية.
النظرية الثالثة: نظرية الفطرة.
وحاصلها: أنّ السر وراء اعتقاد الإنسان بوجود إله من يومه الأول وإلى يوم الناس هذا هو أنّ الإنسان فطر على معرفة الإله ، فنحن فطرنا وجبلنا على معرفة الإله وعلى الاعتقاد به ، ولهذا أغلب الناس يعتقد به .
وهذه النظرية هي النظرية الصحيحة والتي تحدثت عنها آيات القرآن الكريم و روايات أهل البيت (عليهم السلام).
منها: ما جاء في توحيد الصدوق (رضوان الله) عليه بسند صحيح إلى زرارة، قال سألت الإمام الباقر عليه السلام عن قوله تعالى: (حنفاء لله) وعن الحنيفية، قال عليه السلام: (هي فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق -ثم قال-: فطرهم على المعرفة، -ثم نقل قول رسول الله صلى الله عليه وآله: -كل مولود يولد على الفطرة) -ثم علق على قوله صلى الله عليه وآله فقال-: (يعني على معرفة أنّ الله عز وجل خالقه)(التوحيد للصدوق ص331).
ومنها: ما جاء في توحيد الصدوق أيضاً وبسند صحيح إلى عبد الله بن سنان أنه سأل الإمام الصادق عليه السلام عن قوله تعالى: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} فقال عليه السلام: هي الإسلام فطرهم حين أخذ ميثاقهم على التوحيد)(التوحيد للصدوق ص329).
أقوال العلماء في المعرفة الفطرية:
القول بأنّ معرفة الله تبارك وتعالى فطرية ذهب إليه مجموعة من علماء الفلسفة وعلماء النفس وعلماء الانثروبولوجيا، وإليك بعضاً منهم:
الأول : يونغ.
وهو العالم الشهير المتخصص في علم النفس والذي أسس علم النفس التحليلي، كان يذهب إلى أنّ معرفة الله تبارك وتعالى معرفة فطرية أي الإنسان جبل وفطر وهو يجد في صميم ذاته معرفة الله تبارك وتعالى، في كتاب علم النفس عند يونغ، تنقل عنه هذه العبارة:
"الذكور والإناث الرجال والنساء في العصر الحاضر يتدينون فطرياً كما كانوا في السابق لا فرق بين الإنسان البدائي وبين الإنسان المتحضر في أنهما يؤمنان بالله تبارك وتعالى ويتدينون بعقيدة وجود الإله لأنهم فطروا وجبلوا وخلقوا على أن يعتقدوا بهذه العقيدة ".
الثاني: باسكال.
وهو عالم في الفلسفة والرياضيات، وقد نقل عنه فروغي في سير الحكمة في أووربا عبارة: "القلب يشهد بوجود الله تبارك وتعالى لا العقل، والإيمان يحصل بهذا الطريق"
والذي نفهم من هذه العبارة وهو أن قلب الانسان يشهد بوجود إله، وجدانك هو دليلك على وجود الله تبارك وتعالى وإنما يحصل عندك الإيمان بقضية الله موجود لأن عندك قلب فطر على أن تؤمن بهذه القضية.
في سنة 1958 نشر مقال في مجلة فرسية وبالتحديد في باريس، عنوانه "البعد الرابع للإنسان" وقد ذكر أنّ القرن العشرين يشهد اكتشاف مقولة رابعة في الإنسان وراء الجمال والخير والحق وهي مقولة القداسة والإله، وهذه المقولة تشكل بعدا رابعا للإنسان، فالإنسان لم يفطر فقط على حب الجمال وأن ينزع للخير ويميل إلى الحق ويذعن له فحسب ، وإنما فطر ـ أيضاً ـ على وجود مقدس مطلق قوة مطلقة وهي الإله الذي خلق الكون وهو يقوم بدور تدبير هذا الكون.
اللطيف أن هذه المقالة تقول : هذا العصر يشهد اكتشاف البعد الرابع ـ تعني القرن العشرين ـ بينما القرآن قبل 1400 سنة يقول: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}(الروم:30).
معنى المعرفة الفطرية لله تبارك وتعالى:
قدم الباحثون في المقصود من المعرفة الفطرية لله تبارك وتعالى أقوالاً ثلاثة:
القول الأول: هو أنّ الإنسان يولد ويوجد في ذهنه قضية الإله موجود، وفي قلبه يقين وجزم واعتقاد بصحة هذه القضية.
بيان ذلك: الفلاسفة يقسمون الوجود إلى قسمين:
الأول: وجود خارجي وهو الوجود الذي تتحقق فيه الأشياء في الخارج، وهو الوجود الذي يشكله الله تبارك وتعالى ومخلوقاته، أي وجود الحق ووجود الخلق.
الثاني: الوجود الذهني وهو ذلك الوعاء الذي توجد فيه الصور العلمية التي بها يعلم الإنسان بالموجودات الخارجية، فإن عند الإنسان خازنة موجود فيها مجموعة من الصور تحكي وتعكس الموجودات الخارجية ، و بواسطة هذه الصور نحن نعلم بما هو متحقق في الخارج.
وقد أقام الفلاسفة أدلة متعددة على وجود الوجود الذهني:
منها: ظاهرة التذكر، وذلك أننا نتذكر مجموعة من الصور التي لا وجود لها في الخارج، فنحن نتذكر صور أشخاص ماتوا وقبروا وأكل أجسامهم التراب، تفرقت صورتهم ومع ذلك نتذكرها ، وبإمكاننا أن نرسمها ونميزها عن صورة غيرهم، هذه الصور التي تحكي فلانا الذي مات قبل عشر سنوات، أين وجودها؟ هل في الخارج؟ المفروض في الخارج صورته غير متحققة، فأين وجودها؟ الفلاسفة يقولون في عالم الوجود الذهني.
إذا اتضح هذا يتضح القول الأول فأصحاب هذا القول يقولون: الإنسان يولد وفي وجوده الذهني الخاص قضية الإله موجود، فهو يتصور أطراف هذه القضية ثبوت المحمول للموضوع، وفي وجوده الذهني مجموعة من المفاهيم التي تخلق معه وفي قلبه تصديق واعتقاد بهذه القضية، وهذا معنى فطرية معرفة الله عند أصحاب القول الأول.
هذا القول صار محطّا لرفض جملة من المحققين، وذلك أنه مبتلى بملاحظتين:
الملاحظة الأولى: هي أنّ هذا القول يرى أن الإنسان يولد وهو يعلم بوجود الله، في ذهنه قضية الله موجود، وفي قلبه يقين بأنّ الله تبارك وتعالى موجود، وهذا المعنى القرآن ينفيه بصراحة، قال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا}(النحل:78) فالإنسان يولد وهو لا يعلم شيئاً حتى قضية الله موجود، فلا يوجد في جهازه الذهني هذه القضية.
الملاحظة الثانية: هذا القول يفسر فطرية المعرفة بنفس الاعتقاد بوجود الله تبارك وتعالى، مع أننا نجد أنّ الاعتقاد بوجود الله قد ينفك عن الإنسان، فكم إنسان ولد في بيئة إلحادية نشأ ملحداً؟ وكم إنسان ولد في بيئة مؤمنة ولكن بسبب الشبهة و عدم تحصين النفس من الشبهات ترك الإيمان بالله تبارك وتعالى وأصبح ملحداً؟
فالاعتقاد بالله تبارك وتعالى قد يزول ويتبدل إلى الاعتقاد بعدم وجود الله مع أنّ الفطرة في القرآن الكريم لا تتبدل، {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}، إذن لو كان المقصود من الفطرة نفس الاعتقاد يلزم أن يكون كل إنسان معتقد بوجود الله مع أنّ الملاحظ ليس كل كذلك.
لهاتين الملاحظتين لا ينفعنا هذا القول في تفسير المراد من فطرية معرفة الله تبارك وتعالى، فنحن بحاجة إلى قول آخر .
القول الثاني: المقصود من فطرية معرفة الله تبارك وتعالى الوضوح والبداهة، فقولك: معرفة الله فطرية أي واضحة وبديهية وجلية، كل إنسان لكي يعتقد بوجود الله تبارك وتعالى لا يحتاج إلى جهد تفكيري وأن يُعمل النظر، بمجرد أن يتوجه إلى قضية الله موجود يجد الدليل على وجود الله تبارك وتعالى بينا واضحاً.
وببيان آخر:
المناطقة يقسمون القضايا إلى قسمين:
القسم الأول: قضايا بديهية وهي القضايا التي يكفي أن يتصورها الإنسان لكي يعتقد بحقانيتها من دون حاجة إلى إقامة برهان مثل قضية استحالة اجتماع النقيضين، فنحن ندرك بالبداهة أنه لا يمكن في مكان وزمان واحد أن يكون الشخص موجوداً ومعدوماً، وهذه الاستحالة ندركها بالبداهة.
القسم الثاني: القضايا النظرية، وهي القضايا التي تحتاج إلى دليل وبرهان للتصديق بها، مثل قضية الأرض أكبر من القمر.
والقضايا البديهية في المنطق تنقسم إلى أقسام متعددة؛ منها القضايا الفطرية، والمقصود منها القضايا التي يمكن أن نقيم عليها برهان ولكن لا نحتاج إلى إقامة البرهان لأنّ برهانها دائماً يكون معها لا يحتاج إلى طلب ، وهو بين وواضح، مثل الكل أعظم من الجزء، فالبيت ككل أعظم من الجدار كجزء من أجزائه ، وهذه القضية دليلها معها وهو واضح.
وأصحاب القول الثاني في فطرية معرفة الله يقولون إنّ معرفة الله تعالى مندرجة ضمن الفطريات بحسب اصطلاح علماء المنطق، ويمكننا أن نقيم دليلاً على وجود الله تبارك وتعالى ولكن لا نحتاج إلى جهد ونشاط ذهني مجهد لكي ندرك الدليل الدال على وجوده تعالى، فإننا بمجرد أن نتصور أنّ للكون خالقا سوف نجزم ونصدق بأنّ للكون خالقا، قال تعالى: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}(إبراهيم:10) لأنّ الله تبارك وتعالى فاطر السماوات والأرض فلا ينبغي أن يشك في وجوده لأنّ وجوده بين وواضح.
غير أنّ هذا القول أيضاً صار محط للرفض، وتوجد عليه ملاحظ، وهي:
أنّ هذا القول يفسر فطرية المعرفة بالوضوح والبداهة ونحن إذا رجعنا إلى كتب اللغة لا نجد علماء اللغة يذكرون الوضوح والبداهة كمعنى من معاني الفطرة، القرآن نزل بلغة العرب، ولم ينزل على وفق مصطلحات المناطقة، فإذا أردنا أن نفسر الآية المباركة، {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} لابد وأن نعرف معنى كلمة الفطرة عند العرب، وإذا رجعنا إلى كتب اللغة نجد أنهم يفسرون الفطرة بالخلقة، قال الخليل في كتاب العين:
فطر الله الخلائق أي خلقهم وابتدأ صنعة الأشياء(كتاب العين للخليل ج7 ص418).
وقال ابن منظور في لساب العرب:
وفَطَرَ الله الخلق يَفْطُرُهم خلقهم وبدأَهم والفِطْرةُ الابتداء والاختراع(لسان العرب لابن منظور ج5 ص56).
فالفطرة التي نزل بها القرآن بمعنى الخلقة وليس الوضوح والبداهة، فنحن نقبل أنّ معرفة الله تبارك وتعالى واضحة وبسهولة يمكن أن نصدق بوجود الله تبارك وتعالى، كيف! والقرآن يقول: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}(إبراهيم:10) فهذه الآية فيها إنكار على الذين يشكون في وجود الله تعالى، فيقول لهم الباري تعالى: كيف تشكون في وجودي وأنتم تدركون الدلائل والبراهين التي تثبت وجودي وتلك الدلائل بينة ومتوافرة ومتواترة
في كل شيء له آية تدل على أنه الواحد
الدلائل الدالة على وجود الله بعدد أنفاس الخلائق، فنحن نقبل أنّ معرفة الله تبارك وتعالى يمكن أن نتوصل إليها بسهولة من دون حاجة إلى تفكر طويل وإعمال نظر نجهد فيه انفسنا ، ولكن ليس المقصود بالفطرة في هذه الآية الكريمة هذا المعنى (الوضوح والبداهة) .
لهذا فإنّ هذا القول غير نافع، فلابد لنا من قول ثالث غير السابقين.
القول الثالث: المقصود منه هو كيفية الخلقة أو قل نحو الخلقة، فالباري تعالى خلق الخلق بكيفية خاصة، حسب تعبير القرآن بصبغة خاصة، قال الله تبارك وتعالى: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً}(البقرة:138) نحن صبغنا بصبغة خاصة وجعلنا بكيفية خاصة، وكوننا الله تبارك وتعالى بنحو خاص يدعونا إلى الاعتقاد بوجوده تبارك وتعالى، نحو خِلقتنا تأخذ بيدنا نحو الإذعان واليقين بأنّ للكون إلها وخالقا، وحتى يتضح هذا القول أذكر أمورا ثلاثة:
الأمر الأول: هو أنّ كل واحد منا يدرك بالوجدان أنّ له جهازين:
الجهاز الأول جهاز إدراكي ندرك به المفاهيم والقضايا، فنحن ندرك مفهوم الواحد ومفهوم الاثنين، وندرك قضية 1+1=2، فالذي ندرك به المفاهيم والقضايا جهاز إدراكي عمله الالتقاط.
الجهاز الثاني: جهاز الشعور الباطني والميل ، الطفل عندما يأتي إلى هذه الدنيا لا يوحد عنده مفهوم عن الثدي ومفهوم عن الحليب و مفهوم عن كيفية الرضاع، لا يوجد عنده علم بالمفاهيم، ولكن عند شعوره بالجوع وميل ولهذا تجده يتحرك نحو إلتقام الثدي، هذه تجربته الأولى ولكنه ناجح فيها بامتياز لأن عنده جهازا ميليا، وفي هذا الجهاز أودع أن يتحرك فيما إذا شعر بالجوع نحو إلتقام الثدي.
الأمر الثاني: هو أنّ الله تبارك وتعالى خلق الجهاز الإدراكي للإنسان بنحو خاص يجعله بمجرد أن يكون قادراً على التكفير يدرك وجود الله تبارك وتعالى، فالإنسان بمجرد أن يحسن ترتيب مقدمات واستنتاج نتائج يجد أمامه أدلة وجود الله تبارك وتعالى متكثرة واضحة ولا يجد طريقاً إلاّ أن يدرك وجود الله تبارك وتعالى فيما إذا تخلص من الشبهة والعناد، قال الله تبارك وتعالى: {سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ}(فصلت:53) هناك آيات متعددة وهي الآيات الآفاقية كوجود السماوات والأرض وما فيهن وما بينهن، فهذه دلائل تدل على وجود الله تبارك وتعالى، {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ}(آل عمران:190) ثم يبين الباري تبارك وتعالى أنّ نفسك دليل وطريق للوصول إلى الباري تعالى، أبو شاكر الديصاني دخل على الإمام الصادق (عليه السلام) فقال له كيف عرفت أن لك صانعاً؟ فقال (عليه السلام): (وجدت نفسي لا تخلو من إحدى جهتين: إما أن أكون صنعتها أنا أو صنعها غيري، فإن كنت صنعتها أنا فلا أخلو من أحد معنيين: إما أن أكون صنعتها وكانت موجودة، أو صنعتها وكانت معدومة، فإن كنت صنعتها وكانت موجودة فقد استغنت بوجودها عن صنعتها، وإن كانت معدومة فإنك تعلم أن المعدوم لا يحدث شيئا فقد ثبت المعنى الثالث أن لي صانعا وهو الله رب العالمين)(التوحيد للشيخ صدوق ص290)
يقول الإمام الصادق (عليه السلام) : أنت لم تكن ثم كنت، فمن الذي أوجدك؟
إذا قلت: أنا أوجدت نفسي، فأنت تواجه سؤال صعب، وهو أنت أوجدت نفسك وأنت موجود أو أنت معدوم أي في حال كونك موجودا أوجدت نفسك أو حال كونك معدوما أوجدت نفسك؟
فإن قلت أوجدت نفسي و أنا موجود هذا تحصيل للحاصل، وإذا قلت وأنا معدوم وأوجدت نفسي، يقول الإمام (عليه السلام) أنت حال كونك معدوم فاقد للوجود، فهل يكون فاقد الشيء معطيا له! أنت في العدم لا شيء هلاك محض فكيف فعلت !
الإمام الرضا (عليه السلام) يجيب على سؤال مقدر، قد شخص يورد على دليل الإمام الصادق (عليه السلام) إشكالاً وهو:
قد يقول شخص نفسي حادثة ومع ذلك لم يوجد نفسي قديم أزلي وإنما أوجدها موجود حادث؟
يقول الإمام الرضا عليه السلام: أنت لم تكن ثم كنت، وقد علمت أنك لم تكوّن نفسك ولا كوّنك من هو مثلك)(عيون أخبار الرضا عليه السلام للشيخ الصدوق ج2 ص123).
إذن عقل الإنسان خلق بكيفية تدعوه إلى معرفة الله تبارك وتعالى، وهذا معنى فطرة الجهاز الإدراكي على معرفة الله تبارك وتعالى.
الأمر الثالث: هو أنّ الجهاز الشعوري (الميل) أيضاً فطر على الاعتقاد بوجود الله تبارك وتعالى، وذلك أنّ الإنسان مهما ابتعد عن معرفة الله تعالى وغاص في الإلحاد ومهما أخذته الشبهات من جيمع أطرافه يبقى في قلبه صوت يدعوه إلى معرفة الله تبارك وتعالى، في يوم من الأيام دخل رجل على الإمام الصادق (عليه السلام)، فقال يا بن رسول الله أريد أن أتعرف على الله، من هو الله؟
فقال: (يا عبد الله هل ركبت سفينة قط؟ قال : نعم قال : فهل كسر بك حيث لا سفينة تنجيك ولا سباحة تغنيك ؟ قال : نعم قال : فهل تعلق قلبك هنالك أن شيئاً من الأشياء قادر على أن يخلصك من ورطتك ؟ فقال نعم ، قال الصادق عليه السلام : فذلك الشئ هو الله القادر على الانجاء حيث لا منجي ، وعلى الإغاثة حيث لا مغيث)( التوحيد للشيخ الصدوق ص231) .
قلبك يبقى يدعوك إلى معرفة الله تبارك وتعالى، يحركك نحو قوة مطلقة بيدها كل شيء، مهما كان العقل متعلقاً بالدنيا إلاّ أنّ القلب خلق بكيفية تحركه نحو معرفة الله تعالى والاعتقاد به ، ويبقى في هذا القلب حب الله والتحرك نحو الخضوع لله تبارك وتعالى ولكن لا يكتشف الإنسان ذلك إلاّ إذا انقطعت عنه جميع الأسباب، فهناك يدرك بالقلب أنّ مسبب الأسباب موجود وأنه ينبغي الصمود إليه.
وفي دعاء عرفة المنسوب إلى الإمام الحسين (عليه السلام): (إلهي التردد في الآثار يوجب بعد المزار فاجذبني إليك بكسوة الأنوار).
الوصول إليك من خلال الجهاز الإدراكي والتدبر في وجود السماوات والأرض يوجب بعد المزار، وأنا أريد طريقاً أقرب وهو طريق القلب .
وأن يجذبك الله عز وجل من خلال قلبك ومن خلال وجدانك الذي فطر وخلق بكيفية تؤدي إلى الخضوع لله تعالى، هذا يعني إزالة موانع المعرفة أو منع حصول هذا الموانع أو جعل بصر القلب حديد ، فإن هذه العين هي التي تدرك الله وتراه قائما على كل شي جاء رجل إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال: يا أمير المؤمنين هل رأيت الله؟ قال عليه السلام: نعم، قال وكيف رأيت الله؟ فقال (عليه السلام) : لا تدركه العيون في مشاهدة الأبصار ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان)(الكافي للكيني ج1 ص98).
إيمانك في قلبك يريك الله تبارك وتعالى ولكن بالرؤية القلبية، وفي دعاء عرفة يقول الإمام الحسين عليه السلام: (كيف يستدل عليك بمن هو في وجوده مفتقر إليك، أيكون لغيرك من الظهور ليس لك حتى يكون هو المظهر لك، متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك، ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصلنا إليك).
متى غبت عن القلب؟ ومتى بعدت عن الوجدان حتى نحتاج إلى دليل يدلنا ويوصلك إلى معرفنتك؟
(عميت عين لا تراك عليها رقيبا وخسرت صفقة عبد لم تجعل لها من حبك نصيبا).
هذه المعرفة القلبية إذا استحكمت خضعت لها جميع الجوارح، وأعلى مراتب هذه المعرفة معرفة الحسين عليه السلام، الإمام الحسين يقتل رضيعه على كتفه، ويا له موقف عظيم يزلزل الدنيا بأجمعها، في هذا الموقف العظيم يقول : (هون ما نزل بي أنه بعين الله).
تركت الخلق طراً في هواك وأيتمت العيال لكي أراك
فلو قطعتني في الحب إربا لما مال الفؤاد إلى سواك
القيت المحاضرة بتاريخ: ٣ / 1 / 1436 هـ

No comments:

Post a Comment