Sunday, April 5, 2015

تحديات الهوية في زمن العولمة

محاضرة لسماحة الشيخ حيدر السندي(حفظه الله)
قال الله العلي العظيم في كتابه الكريم: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ*صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}(الفاتحة:6-7) صدق الله العلي العظيم.
يقع البحث حول عنوان (تحديات الهوية في زمن العولمة)في نقاط ثلاث:
النقطة الأولى: تعريف العولمة.
فقد قدم مجموعة من الباحثين عدة تعريفات للعولمة، غير أنه بإمكاننا أن نقسم الذين عرفوا العولمة إلى قسمين أساسين:
القسم الأول: هم الذين عرفوها تعريفاً تجريديا، فنظروا إلى العولمة كمفهوم مجرد عن الواقع ولم ينظروا إلى معطيات الواقع، فعرفوا العولمة كمفهوم لوحظ فيه ما ينبغي أن يتصف به - ذلك المفهوم - فيما إذا تحقق، أي عرفوا العولمة بما أنها ممارسة قد تحقق في المستقبل، وإذا تحققت ما الذي ينبغي أن تشتمل عليها من عناصر؟
ومن الشخصيات التي عرفت العولمة بهذا النحو:
١- ماك گرو.
فقد عرف العولمة بأنها نمو العلاقات التبادلية بين المجتمعات بحيث يحدث نظام ثقافي موحد ويكون لحدوث أي حدث في أي مجتمع تأثير على سائر المجتمعات.
٢- مارتن آل بيرو.
فقد عرف العولمة بأنها مجموعة عمليات تحول المجتمعات المختلفة إلى مجتمع واحد كبير، وهو ما يسمى بالقرية الكونية الكبيرة، القرية المتوحدة في ثقافتها وفي عادتها وفي مقوماتها الحضارية.
عناصر تحقق العولمة:
لكي تحقق العولمة لابد من توفر عناصر ثلاثة:
العنصر الأول: هو حرية الإنتاج والتوزيع وحرية الشراء والاقتناء والاستهلاك، فلكل الإنسان الحق أن ينتج أي منتج، وله الحق في توزيع المنتج في أي مكان وأي حضارة و لدى اي شعب، ومن حق كل إنسان أن يشتري ذلك المنتج مهما كان موقعه الجغرافي.
ويسمى هذا العنصر بالعولمة الاقتصادية بحيث يتحول العالم إلى سوق موحد تشترك فيه جميع المجتمعات.
العنصر الثاني: هو الحرية الثقافية، فمن حق أي إنسان مهما كان موقعه وانتماؤه أن يتبنى أي نظرية وأن يعتقد بأي فكرة، ومن حقه أن يروج لما يعتقد به في أي مجتمع و في أي بلد ولدى أي شعب، ولا يجوز لأحد أن يحدد للناس كيف يفكرون؟ أو يمنعهم من أن ينشروا أفكارهم، ويروجوا لمعتقداتهم.
ويسمى هذا العنصر بالعولمة الثقافية.
العنصر الثالث: هو تدويل القانون والنظام وتدويل السلطة الحاكمة، فلكي تتحقق العولمة لابد أن يكون هناك قانون موحد يحكم كل البلاد وكل المجتمعات، ولابد أن يكون هناك دستور عالمي بحيث تخضع له جميع الدول وجميع الأنظمة، ولابد من وجود قوانين جزائية تضمن احترام القانون والدستور الدولي، ولابد من وجود قوة دولية مشتركة تقوم بتطبيق القوانين الجزائية تعاقب الدول أو الجماعات أو الأفراد الذين يخترقون القانون الدولي.
وهذا العنصر يسمى بالعولمة القانونية والسياسية والعسكرية.
إذا تحقق هذه العناصر الثلاثة حينئذ يتحول العالم إلى قرية واحدة، فتتحقق القرية الكونية وتندك الحضارات والثقافات في ثقافة واحدة.
القسم الثاني: هم الذين عرفوا العولمة تعريفاً واقعياً، بحيث انطلقوا من الواقع ولم يلاحظوا مفهوم بل لاحظوا مصداق، ولم ينظروا إلى حقيقة من الحقائق إذا تحققت فما الذي ينبغي أن تشتمل عليه؟ بل نظروا إلى المصداق الخارجي ففيما لو تحققت عولمة في المستقبل، ما هو شكل تلك العولمة؟ ما هو الفرد المصداق الذي يمكن أن يتحقق للعولمة في المستقبل؟
من الشخصيات التي عرفت العولمة بهذا :
(فوكوياما) وهو منظر أمريكي من أصل يباني، ومن أبرز المحافظين الجدد صاحب كتاب نهاية التاريخ والإنسان الأخير.
وقد عرفها بأنها انتشار الثقافة الغربية وغلبة المدنية الأمريكية.
فالعولمة التي يدعى إليها ويروج لها ليست إلاّ أمركة العالم وغربنة العالم، فأمريكا وأروربا عندهم مبادئ :
منها: إيمانهم بالرأسمالية في الاقتصاد، وبالعلمانية في إدارة الحكم والسياسية، والليبرالية في العلاقات الاجتماعية والحريات الفردية،و العولمة التي قد تتحقق والتي يبشر بها دعاة العولمة ليست إلاّ نشر هذه المبادئ.
لماذا هذا القسم من الباحثين يعرف العولمة بهذا التعريف (أمركة العالم)؟
الجواب : باعتبار أنّ العولمة ليس إدغام الحضارات في حضارة واحدة، وأن تتحول الحضارات إلى حضارة جامعة لخصائص جميع الحضارات، أو تندك الثقافات في ثقافة واحدة فتصبح ثقافة العالم ثقافة واحدة وهي في نفس الوقت جامعة لكل خصائص ومقومات الثقافات المختلفة، العولمة لا تعني ذلك بل تعتني غلبة الحضارة والثقافة الأقوى.
الأمور التي يمكن أن تحدد قوة الحضارة وقوة الثقافة أربعة:
القوة الاقتصادية والقوة العسكرية والقوة العلمية والقوة العسكرية، وهذه العناصر الأربعة ليست موجودة إلاّ في المدنية الأمريكية والمدنية الأوروبية، فبالتالي الحضارة الأقوى هي الحضارة الغربية، فإذا كان هناك عولمة في المستقبل فهي تعني تمدد الحضارة الأمريكية، أن تغزو المبادئ الأمريكية سائر البلاد وتتحول إلى ولاية من الولايات الأمريكية يحكمها النظام الرأسمالي والنظام العلماني والنظام الليبرالي.
ونحن فعلاً إذا تأملنا في إرهاصات العولمة نجد أنّ الآثار التي نلمسها للعولمة التي يُبشر بها تدل على أنّ العولمة ليست إلاّ تمدد للفكر الغربي، فهي غزو فكري ولكن جعل له عنوان ناعم، فالعولمة ليست إلاّ عنوان ناعم مخملي لما يسمى بصراع الحضارات أو الغزو الفكري فبدل أن يعبر بذلك عُبر بالعولمة!
الآن - للاسف - الواقع الإسلامي نجده يستجيب لدعوات العولمة لأنه أخذ يتأثر بالطرح الغربي، فنحن نجد للغرب تأثيرا علينا في أفكارنا فيوجد بيننا من يتبنى الفكر الليبرالي والعلماني ويروج لذلك، الغرب أثر على ميولاتنا النفسية، الآن الموضة الغربية تتصرف فينا كيفما تشاء، الثقافة الغربية لها تأثير على شكلنا، بعض الشباب له تسريحة خاصة يجعل لحيته بكيفية خاصة تماثل الكيفية الموجودة في البلاد الغربية، وكذلك اللباس، وأيضاً لها تأثير على لساننا، أن يتعرف الإنسان على لغة غير لغته هذا أمر حسن وحضاري، فمن عرف لغة قوم أمن من شرهم، وتمكن من تحصيل خبراتهم اللغة هي وسيلة تواصل بين الثقافات والحضارات، ولكن أن تجعل اللغة هي مناط التقدم فهذا يعني ان هناك هزيمة نفسية وخضوعا وانصياعا للثقافة التي تحملها تلك اللغة، الثقافة الغربية أثرت علينا حتى في بعض تفاصيل حياتنا، فالمطاعم المنتشرة والسريعة هذه أسست وفق مبادئ غربية وفصلت لمجتمعات غربية لها نمط حياة معين، نحن الآن نتأثر في بعض سلوكياتنا، نحن مثلاً عندنا يكره أن يأكل الانسان وحده، بينما هذه المطاعم تجعل الإنسان يأكل وحده عندما يشتري منها وجبة ويأكلها في الطريق، نعم؛ هذا قد لا يكون أمرا جوهريا ولكن انعكاس للغزو الفكري، أحد دلالات العولمة المستقبلية .
نحن من أسس نظام الغذاء عندنا فيما إذا كان الطعام من اللحم أو مشتقاته ضرورة إحراز التذكية، بينما مسألة إحراز التذكية تكاد تكون معدومة مع هذه الوجبات السريعة، وهذه المسألة ربما ينظر إليها البعض على أنها مسألة شكلية ولكنها من دلالات تأثير العولمة الجديدة، الغزو الفكري الجديد، النظام العالمي الجديد الذي يراد أن يطبق علينا.
النقطة الثانية: مبررات العولمة.
الذين يدعون إلى العولمة لهم مبررات تدعوهم الى تبني العولمة وقد ذكر عدة من الباحثين المبررات التالية :
الأول: المبرر الحضاري.
كل حضارة تعتز بنفسها وبمبادئها وبالنظريات التي توصلت إليها، فمن باب الاعتزاز بالحضارة تقوم الحضارات بنشر مبادئها وثقافاتها، فالغرب مثلاً يعتز بمبادئ الليبرالية يعتقد أنها الأفضل، فيروج ويسعى لان يجعل العالم مطبقا لهذه المبادئ ، لأنه يراه من نتاجه ، فاعتزازه بها جزء من نفس الاعتزاز بالحضارة.
الثاني: المبرر الاقتصادي.
بعض الأبحاث تقول أنّ الدعاة الحقيقيين للعولمة هم أصحاب الشركات العملاقة العابرة للقارات متعددة الجسنيات مثل شركة أبل وشركة ميكروسفت وشركة كوكا، فإن هذه الشركات تسيطر على اقتصاد العالم، حيث تملك ضعف احتياط الدول في مخزون الذهب والنقد، وتستحوذ على 80% من التبادلات التجارية التي تقع اليوم ومنتشرة في كل البلاد، والدول المستضيغة لها لا تستفيد من ربحها إلا 15% وأما الدول الأم التي أسست هذه الشركات تستفيد 85%، وأغلب هذه الشركات شركات أمريكية وشركات أوروبا فـ44% شركات أمريكية و32% أوروبية ثم العالم كله يشترك في 24%، هذه الشركات حتى تحافظ على السيطرة الاقتصادية لابد وأن تحول العالم كله إلى سوق مستهلك، وهذه العولمة الاقتصادية.والعولمة الاقتصادية لا يمكن أن تتحقق إلاّ إذا تغيرت ثقافة البلاد بنحو يتحول الناس إلى أشخاص يتابعون منتجات هذه الشركات العالمية، بل وآخر ما تنتجه هذه الشركات، وهذا يحتاج إلى تغيير ثقافي وفكري، هنا تأتي العولمة الثقافية ، هذه الدول كيف تضمن بقاء مصالحها في الدول المختلفة والدول الحاضنة المستقبلة لفروعها لابد من وجود قانون دولي مشترك وقوة دولية عامة تحفظ مصالح هذه الشركات في الدول المختلفة، وهنا تأتي العولمة القانونية والعسكرية، فالذين يدعون أساساً إلى العولمة أصحاب هذه الشركات، يريدون أن يجعل لهم سوقاً ووظيفتنا الاستهلاك فقط، الذين يدعون إلى العولمة لا يدعون في الواقع إلاّ إلى عنوان براق يخدعون به سائر الشعوب، نعم؛ إذا كانوا هم يريدون أن يحولوا العالم إلى قرية عالمية كبيرة فلماذا لا يقدمون النقاط الإيجابية التي تحصلوا عليها وجعلتهم في الصدارة؟ لماذا لا يعطونا كيفية اختراع المخترعات؟ لماذا لا يعطونا خبراء يبنون لنا مصانع تناظر المصانع التي عندهم حتى نكون في مصفهم فيما إذا أردنا أن ننتج؟
بدل ذلك عم - على النقيض - يشرعنون أنظمة احتمار العلم كقانون براعة الاختراع، لحفظوا أسرار اكتشافاتهم ، إذا اكتشف أحد في الغرب اي مكتشف و اخترع اي اختراع لا يحق لغيره أن يمارس إنتاج ذلك المخترع ويضعون عقوبات دولية، والهدف من هذه الأنظمة أن تبقى سائر الدول سوقا مستهلكا.
الثالث: المبرر التطويري.
العالم كما نعلم فيه دول متطورة في الاقتصاد والعلم والمدنية، وفيه دول متخلفة نامية تسعى من أجل التطوير، فالدول النامية المتطورة لأنها تحب التطوير فإنها تحاول أن تكرر تجربة الدول المتقدمة، فتحاول أن تجعل نفسها نسخة أخرى للدول المتطورة، تأخذ ثقافتها ومبادئها لكي تتحول مثلها، نعم؛ حب التطور صفة حسنة وحضارية ينبغي أن يكون الإنسان محباً للتطور دائماً يسعى لتجديد نفسه لتغيير وضعه من السيء إلى الحسن ومن الحسن إلى الأحسن ولكن ينبغي أن يكون هذا التطوير واعياً، التطوير لا يعني أن تتحول إلى نسخة أخرى للمجتمع المتطور بحيث تأخذ منها النقاط الايجابية والسلبية!
التطوير معناه أن تحافظ على مكتسباتك فتحافظ على النقاط الإيجابية التي تملكها وتضيف إليها النقاط الإيجابية الموجودة عند الحضارات الأخرى، حب التطوير إذا اقترن بعدم الوعي يوقع الإنسان في فكرة العولمة التي يروج لها دعاة العولمة، فتتحول جميع المجتمعات إلى نسخة أخرى للمجتمع الأمريكي أو الأوروبي، والقرآن الكريم يضرب لنا مثلاً لجماعة كانوا يحبون التطوير ولكن لا يوجد عندهم وعي، تلك جماعة كانت في عهد موسى (على نبينا وآله وعليه أفضل الصلاة والسلام)، رأوا قارون متطورا في مجاله الاقتصادي فأرادوا أن يكونوا مثل قارون، ولكنهم أرادوا أن يكونوا نسخة أخرى من قارون يأخذونه بإيجابياته وسلبياته، قال تعالى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ}(القصص:79-80) أن تحب التطوير يعني أن تأخذ إيجابيات قارون لا أن تتحول إلى شخصية أخرى كقارون مع ما فيه من سلبيات مهلكة وتجعل ما فيك من إيجابيات لا قيمة لها.
الذي يراد منا أن نتحول إلى نسخة أخرى كقارون العصر نأخذ منه حتى السلبيات، فنهلك ونتحول إلى مجتمع متمزق فيه النزعة الفردية تطغى على النزعة الاجتماعية نسعى إلى المصالح الضيقة الزائلة تحقيق الشهوات وتعمير الدنيا على حساب الآخرة.
النقطة الثالثة: تأثير العولمة على الهوية الإسلامية.
العولمة لها تأثير سلبي جداً على هويتنا كمسلمين لأن المدنية الإسلامية والهوية الإسلامية تنطلق من أسس تختلف اختلافاً جذرياً عن أسس العولمة التي يروج لها.
أسس المدنية الإسلامية:
تنطلق المدنية الإسلامية من أربع أسس أساسية:
الأساس الأول: أنّ محور الوجود ومن إليه ينتهي الوجود وينبغي أن يخضع له الوجود هو الله تبارك وتعالى، الله تعالى هو الذي خلق الكون وهو المالك الحقيقي وما سواه عبد ينبغي أن يخضع لإرادته، (تبارك الذي بيده الملك)، (فسبحان من بيده ملكوت كل شيء)، (يسبح لله ما في السماوات والأرض الملك القدوس).
الأساس الثاني: أنّ الله تبارك وتعالى كما أنه محور في الوجود ، كذلك هو محور في عالم التشريع، محور من الناحية القانونية، الذي له حق أن يجعل القانون ويجب أن يخضع لقانونه ويطاع هو الله تبارك وتعالى والله تعالى جعل القانون، قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}(الحديد:25) لقد شرع الله لنا تشريعات لتنظيم حياتنا ثم جعل الباري تعالى لنا مرجعية لأخذ تلك التشريعات ، والمرجعية ليست هي العقل، نعم؛ العقل يستفاد منه في فهم تشريع الله وخلفيات تشريعه أي المصالح التي لاحظها الباري تعالى في قوانينه وليس هو المصدر، العقل يقول إذا آمنا بوجود الله تبارك وتعالى فلابد أن نؤمن أن قانونه أفضل من قانون العقل البشري ، لان معنى وجود إله هو وجود المهيمن المطلق والعالم المطلق الذي يعلم الإنسان ويعلم مصالح الإنسان في الآن والمستقبل وهو الذي أعطاه العقل والعلم والقدرة على التفكير والاستنتاج، فإذا كان كل ما عند العقل من الله تعالى فلا يمكن أن يأتي العقل بقانون أفضل من قانون الله تبارك وتعالى، هذا ما يقر به العقل وفق عقيدة خاصة وهي عقيدة الإله، الذي خلقنا و أعلم منا بمصالحنا ، في ظل هذه العقيدة لابد وأن نجزم بأنه تبارك وتعالى الأولى بجعل القانون وإذا جعل القانون لابد وأن يُتبع في قوانينه، وقد جعل المولى تبارك وتعالى لنا أحكاما وحدد مرجعية لهذه الاحكام ، قال تعالى: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ}(الحشر:7) وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: (إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، وإنكم لن تضلوا ما اتبعتموهما واستمسكتم بهما)(الأمالي للشيخ الطوسي ص548).
الأساس الثالث: أنّ الإنسان يتكون من بعدين: البعد المادي والبعد الروحي المجرد، فللإنسان جسد وله شهوات ورغبات، وأيضاً للإنسان روح، قال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}(آل عمران:59)، هناك جنبة ترابية خلقت من تراب، ولكن هناك جنبة أمرية، {ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}، وقال تعالى: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ*فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي}(ص:70-71)، هناك طين وهناك روح، أي نظام لا يمكن أن يكون نافعاً وتترتب عليه قيمة إلاّ إذا كان ذلك النظام يحقق مصالح الإنسان الروحية كما يحقق مصالحه الجسدية، أما إذا كان النظام يحقق المصالح الجسدية فقط أي الرغبات والشهوات الدنيوية الضيقة ولكن على حساب الروح والحياة الأخروية فهذا لا ينفع الإنسان.
الأساس الرابع: وهو الانتماء للجماعة المؤمنة، أنت كمسلم عندك رؤية وفلسفة من خلالها تنظر إلى الكون تعتقد أن في هذا الكون إلها ، وهو محور، وسائر الموجودات ليست إلاّ فضل من نوره تبارك وتعالى، هو الذي من عليها بالوجود ومن له حق التشريع هو ز، هذه المعتقدات تحتاج إلى بيئة حافظة، والبيئة الحافظة هي الجماعة المؤمنة، الإنسان الذي يعيش في بيئة ملؤها الشبهات فإنّ الأمراض الروحية كالأمراض الجسدية معدية ، قد يصيب الانسان مرض روحي بسبب اتصاله بمريض روحي فيتنازل عن عقيدته ورؤيته للكون والإله ومخلوقاته، من هنا على الإنسان أن يجعل على نفسه حافظة يحفظ من خلالها عقيدته وثباته على مبادئه، وتلك الحافظة هي البيئة الإيمانية، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}(التوبة:119)، كونوا مع أصحاب العقيدة الصادقة، وأصحاب السلوك الصادق، الباري تعالى أوجب علينا أن نقول في الصلاة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ*صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}(الفاتحة:6-7) كحد أقل عشر مرات ندعو بهذا الدعاء في صلواتنا، وهذا الدعاء يعني أن تطلب من الله تعالى أن تكون في صراط الذين آمنوا، أن تكون مع الذين أنعم الله عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، لأنّ هذه البيئة هي التي تحفظ عقيدتك، ليس مطلوب منك أن تعادي كل من يختلف معك بل المطلوب منك أن تكون رحيماً تدعوهم إلى الحق، قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}(النحل:127) ولكن لا تكن معهم، لا تتأثر بأفكارهم، وإنما تكون مع الجماعة الصالحة ومعاديا لأعداء الله والحق والخير .
أسس العولمة:
المبادئ التي تبتني عليها العولمة ذات النزعة المادية والليبرالية تختلف عن هذه الأسس الأربعة: فأول أساسها أنّ الإنسان هو محور الوجود، وليس أي إنسان بل الإنسان في نزعته المادية لا الروحية، فكل قانون ينبغي أن يكون بوضع الإنسان وفي صالحه، وصالح الإنسان أن يتحصل على شهواته ورغباته، ويطعم جسده من ذلك فإنّ ما يقدمه الغرب من نتاجهم وإعلامهم ليس إلاّ سلع تخاطب شهوة الإنسان والجنس والمأكل والملبس، فهي أمور لا تنتج إلاّ لأجل إعمار الدنيا ولو على حساب الآخرة، فالأنموذج الذي يراد أن نحتذي به هو المجتمع الأمريكي إذْ يعتبر هو أفضل من طبق مبادئ العولمة الليبرالية التي يروج بها، ما هو حال المجتمع الأمريكي؟ مجتمع متفتت متمزق، الجرائم تأخذه من طوله إلى عرضه، كل سنة في أمريكا تقع أحد عشر مليون وثمانمائة وسبع وسبعين جريمة، الدول العربية والإسلامي كلها مجتمعة جرائمها لا تصل إلى ربع هذا العدد.
في كتاب أمريكا تصلي أو لا تصلي، توجد إحصائية تقول في كل أربع دقائق في أمريكا تقع خمس عمليات اغتصاب، ويقول أيضاً: عدد النساء اللاتي تعرضن لعملية اغتصاب أو تحرش جنسي في فترة من فترات حياتهن يبلغن من مجموع المواطنات الأمريكيات 80%، مدرسة واحدة ثانوية نسبة اللاتي حملن في سنة واحدة من سفاح 45%، هذا النموذج الذي يراد منا أن نحتذي به ، هذه المبادئ التي تبشر بها العولمة ويدعو إليها دعاة العولمة في البلاد الإسلامية الذين يتبنون الفكر الليبرالي أو النزعة المادية وينطلقون من مبادئ إلحادية وهم لا يشعرون، يريدون أن يتحول وقاعنا الاجتماعي إلى هذه الصورة المرعبة.
نحن في الواقع لسنا بحاجة إلى النموذج الغربي والشرقي، فإننا عندنا نماذج بيضاء مشرقة تنير لنا طريقنا نحو الكمال في الدنيا والآخرة، تلك النماذج نتعرف عليها في مدرسة محمد وآل محمد، مسلم بن عقيل هذا الرجل العظيم أحد النماذج المشرقة التي نتعرف عليها في مدرسة أهل البيت عليهم السلام وفي مدرسة أمير المؤمنين عليه السلام وفي مدرسة الإمام الحسين عليه السلام، هو النموذج الذي ينبغي أن نقتدي به.
مسلم بن عقيل ضحى بكل ما عنده من أجل المبدأ ومن أجل الآخرة، بلغ مقاماً عظيما عمر به آخرته ولم يهتم بشأن هذه الشهوة الملحة الفانية والزائلة وإنما اهتم بتحقيق رضا خالقه و عقله النير قاده إلى أعلى المراتب، إذا أردت أن تتعرف على مقام مسلم بن عقيل فاسأل الحسين عليه السلام، الإمام الحسين عليه السلام بايعه الناس في عدة أماكن ولكن أهم منطقة بايعت الإمام الحسين هي الكوفة، فالكوفة أرادت سفيرا ونائبا يقوم مقام الحسين، وهو عليه السلام اختار من كل أهل بيته مسلما ليقوم بهذا الدور الحساس والخطير حدا ثم كتب ( عليه السلام ) : (فقد أرسلت إليكم أخي وابن عمي والمفضل عندي من أهل بيتي مسلم بن عقيل) فذهب سلام الله عليه إلى الكوفة نائبا خاصا مختارا بشخصه من سيد الشهداء .

القيت المحاضرة بتاريخ: 4 / 1 / 1436 هـ

No comments:

Post a Comment