Wednesday, April 29, 2015

نظرية التطور و الإلحاد (١)

بقلم : حيدر السندي.
بسم الله الرحمن الرحيم 
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
بين يدي البحث : 
مع تطور العلم واكتشاف جوانب متعددة ترتبط بالطبيعة وكيفية تكونها وتكون ما فيها من أنواع ومظاهر مختلفة ، واجه الإنسان عدة أسئلة ترتبط بأصل الكون وعلته ومنشأ وجود الأنواع وتشكل الظواهر الطبيعية ، وقد قدمت دراسات متعددة جنحت بأصحابها نحو الإلحاد و إنكار وجود الفاعل و الغاية للنظام الكوني ، ومن أهم تلك الدراسات نظرية (m) التي طرحها كتاب (التصميم العظيم) من تأليف الفيزيائيَّين ستيفن هوكنغ وليوناردو ملودينو، و نظرية التطور أو النشوء والارتقاء التي شيد قواعدها العالم الشهير تشارلز داروين في كتاب (أصل الأنواع) .
لقد واجه المؤمنون تحدياً خطيراً بعد طرح هذه الدراسات وكانت النتيجة في بعض الأحيان ـ للأسف ـ تبني بعض المؤمنين للإلحاد أو تزلزل إيمانه بوجود الإله ووقوعه في الحيرة والشك .
وهذا ما يوجب على المؤمنين بالإله ـ من أي ديانة كانت ـ ملاحظة هذا الدارسات بدقة ومحاكمة منطلقاتها الإلحادية ، وهذا كما هو واضح ما لا يمكن تحقيقه من خلال المناهج الكلامية والفلسفية التراثية العابرة للقرون و التي تعرضت لشبهات عصر مؤلفيها ، و لا تعالج ما استجد بعد ذلك من الشبهات.
إن الإلهيين بحاجة إلى أن يولوا معطيات العصر الحديث و ما يدور في أروقة المعاهد والمؤسسات العلمية اليوم اهتماماً خصوصاً تلك الأطروحات التي ترتبط بالعقيدة وأصول الإيمان ، فما عاد الوضع الثقافي العام يتحمل الاقتصار على بعض العلوم الدينية والتعويل في البعض الآخر على الدارسات الأحفورية التي لا تواكب مطلبات الوضع الثقافي الراهن .
لماذا كتبت؟
لقد كتبت مقالاً فيما سبق حول نظرية (M) وقد صار ـ هذا المقال ولله الحمد ـ محط اهتمام شريحة واسعة من القراء الحريصين على متابعة هذه الأبحاث ، حتى أن بعضهم أرسل إلي متمنياً أن أكتب مقالاً آخر حول نظرية التطور ومناقشة الملحدين في توظيفهم لها في دعم الإلحاد ، فوجدتني ملزماً تكبد عناء هذا البحث وما فيه من العقبات ، فإن هذا البحث يحتاج إلى إلمام بعدة علوم تشكل آليات تكوين نظريةالتطور وهي : علوم الجينات، والمتحجرات، والجيولوجيا وعلم طبقات الأرض، والأحياء الجزيئي، والتشريح، وغيرها من العلوم التي لم يكن كثير منها مكتشفاً عندما تشكلت القناعة التامة لداروين نفسه وقت إصداره لكتابه الشهير (أصل الأنواع) في 1859 والذي يبلغ 786 صفحة واستغرق تأليفه 20 سنة ، وإني أعترف بعدم التخصص في هذه العلوم ، و لهذا حاولت ما استطعت الاستعانة بما ذكره المتخصصون في هذا الصدد توطئة لتناول الجانب الفلسفي من المقالة .
إن من المفارقة الكبيرة أن يعتقد أنصار نظرية التطور بأن هذه العلوم المكتشفة أو المعمقة بعد داروين ساهمت مساهمة كبيرة في تدعيم النظرية ، وفي المقابل يذهب خصومها إلى أن الجهل بهذه العلوم وبدائية وسائل داروين وراء اعتقاده بها ، و لو أنه أحاط بالمعطيات الحديثة للعلوم التالية : ( الوراثة ، الجينات ، الأجنة ، الفيزياء الحيوية الكيمياء الحيوية ، الاحتمال الرياضي) لما تبنى نظريته في التطور .
لقد كان الدكتور فرنسس معتقداً بنظرية التطور ، وهو فيزيائي وعالم كيمياء حيوية بريطاني مشهور ، توفي في 28 يوليو2004، واليه الفضل يعود في اكتشاف (DNA) وقد حصل على جائزة نوبل في الطب لعام 1962مشاركة مع جيمس واتسون وموريس ويلكنز لأبحاثهم المتعلقة بالتركيب البيولوجي للحمض النووي الريبوزي منقوص الأكسجين في الكائنات الحية.
هذا الباحث التطوري الكبير ترك نظرية التطور بعد اكتشافه وتعمقه في الحمض النووي رفضوا نظرية التطور وذهبوا إلى استحالة وجود الحمض النووي صدفة ، و ذكر أن التعمق في العلم يدعم نظرية الخلق الإبداعي للأنواع. 
لقد أثرت نظرية داروين تأثيرا واسعاً على العلماء و الباحثين ، و مطالعة الإحصائيات التي ذكرها Coyne في كتابه ( لماذا التطور حقيقة؟) توقف على مدى قناعة المتابعين لهذه النظرية ، فقد ذكر أن نظرية داروين في( أن كل أشكال الحياة منتج للتطور)، أعظم فكرة جاءت على ذهن أي امرئ والأدلة الوافرة التي حشدت لصالحها أقنعت أغلب العلماء والكثير من القراء المثقفين أن الحياة في الحقيقة قد تغيرت عبر الزمن. 
هذا استغرق حوالي عشر سنوات فحسب بعد نشر (أصل الأنواع) في عام 1859. لو كانت هناك سنون شك ، فهي السنين التي تلي إصدار الكتاب أي النصف الأخير من القرن التاسع عشر، حيث لم تكن الأدلة آلية التطور واضحة، والوسائل التي تعمل بها_الجينات_ كانت لا تزال مجهولة. ولكن في العقود الأولى من القرن العشرين استمرت الأدلة على كلٍ من التطور والانتخاب الطبيعي في الارتقاء، ساحقة المعارضة العلمية للتطور. و اكتشف علماء الأحياء الكثير من الظواهر التي لم يكن دارون ليتخيلها. ككيفية تمييز العلاقات التطورية بين الكائنات من تسلسلات الحمض النووي منزوع الأكسجين(DNA)، وهذا ما رسخ النظرية عند العلماء فاليوم التطور راسخ بقوة كحقيقة علمية نعم الأمور مختلفة خارج الدوائر العلمية ، إذ عامل الدين والغرور ورفض الاشتراك مع الحيوان في أصل يحول بين المعارضين وبين قبول النظرية ، إن الكثير من الناس لا يقبل ما تقدمه النظرية من أننا لسنا فقط مرتبطين بكل الكائنات، بل نحن_مثلهم أيضاً_منتج القوى التطورية العمياء وغير الشخصية ، وهذا لا يسر تماماً الكثير من الناس الذين يعتقدون أننا جئنا إلى الوجود بطريقة مختلفة عن الأنواع الأخرى من الكائنات، كالغاية المميزة لهدف إلهي. هذا مضافاً إلى أن البعض اعتقد أن التطور يزيل الأخلاق وطرح السؤال التالي : فإذا كنا حيوانات، فلماذا لا نتصرف كالحيوانات! ولماذا نتعامل بالأخلاق ولا تحكمنا شريعة الغاب ! ونحن لسنا إلا قرودا ذوي أدمغة كبيرة؟ 
العامل الديني وما يقدمه الأديان عن بدء الخلقة هو العامل الأشد قوة في معارضة حقيقة التطور في الولايات المتحدة الأمركية وتركيا. حيث تتغلغل المعتقدات الأصولية. تظهر الإحصائيات بشدة مدى المقاومة التي يقوم بها الأمركيون لقبول الحقيقة العلمية البسيطة للتطور. رغم الأدلة العلمية غير القابلة للدحض أو الجدل لحقيقة التطور، فسنة تلو سنة تظهر الاستبيانات أن الأمركيين متشككون على نحو مؤسف في هذا الفرع الوحيد من علم الأحياء . في عام 2006، على سبيل المثال، طُلِب من الراشدين في 32 ولاية أن يجيبوا على صحة الجملة التالية : "الكائنات البشرية تطورت من نوع أبكر من الحيوانات." و كانت نسبة 40% فقط من الأمركيين_أي أربعة من كل عشرة أشخاص_حكموا على الجملة بأنها صحيحة ونسبة الأشخاص الذين قالوا أنها خطأ هي 39%، و نسبة غير المتأكدين 21% . وحوالي ثلثي الأمركيين يشعرون أن التطور إذا دُرِّس في الحصص العلمية، فيجب ان يُدرَّس الخلق كذلك. فقط 12% _واحد من كل ثمانية أشخاص_يعتقدون أن التطور يجب أن يُدرس دون إشارة لبديل خلقي ، و الملفت في أمريكا أن واحداً من كل ثمانية مدرسي أحياء تقريباً في المدارس العليا يسمحون بتقديم الخلقية أو التصميم الذكي كبديل علمي صحيح للتطور. (وربما هذا ليس مذهلاً إن علمنا أن واحداً من كل ستة مدرسين يعتقدون أن الله خلق البشر بشكلهم الحالي تقريباً، منذ عشرة آلاف سنة فقط!).
و في تركيا 25% يقبلون، 75% يرفضون .
وأما في أوربا فأكثر من 80% في فرنسا والدول الإسكندناڤية وأيسلاند يرون التطور كحقيقة. في اليابان 78% من الناس يوافقون أن البشر قد تطوروا.
إن نظرية التطور تنتشر الآن في بلدان أخرى، تشمل جرمانيا والمملكة البريطانية المتحدة، في المملكة المتحدة في عام 2006، سأل استفتاء عملته قناة BBC ألفي شخص أن يصفوا آراءهم في كيفية تكون الحياة وتطورها. فقبل 48% الرؤية التطورية، اختار 39% إما الخلقية أو التصميم الذكي، و13% لم يعرفوا . كتاب (لماذا التطور حقيقة ؟ بتصريف ) . 
الجمعية الأميركية لتقدم العلوم( American Association for the Advancement of Science ) وتعرف اختصاراً بـ"AAAS" تضم أكثر من 12700 عالم في مختلف التخصصات العلمية و هي من أهم المنظمات العلمية في العالم لها نشرة في 2006 جاء فيها "لا يوجد في الأوساط العلمية خلاف يعتد به حول تطور الكائنات الحية، ونظرية التطور من أقوى حقائق علم البيولوجيا ". 
طبعاً الخلاف حول النظرية كبير جداً و تبادل الاتهامات حول دواعي القبول والإنكار مستمر إلى يومنا هذا ، ولا يعنينا الخوض في هذا الجانب ، فما ذكرته سابقاً حول تباين وجهات النظر يعكس جدية هذا المسألة والمهم فيها هو تناول الجانب الفلسفي لطرح السؤال التالي : هل نظرية التطور ـ على تقدير التسليم بها ووجود دليل علمي على شمولها لجميع الأنواع ـ تتنافى مع الاعتقاد بوجود الإله ، أو تطيح ببعض أدلة وبراهين وجوده كما يصور الملحدون اليوم أو لا ؟
ومعرفة جواب هذا السؤال يتطلب منا الخوض في بيان حقيقة نظرية التطور أولا ثم استعراض أهم مؤيداتها ثانياً ، من هنا سوف يكون كلامنا في محورين:
المحور الأول : في عرض نظرية التطور .
وسوف نعرض هذه النظرية بإسلوب وضح مبسط ضمن نقاط :
النقطة الأولى : تعتمد نظرية التطور على أمرين أساسيين :
الأمر الأول : التوالد الذاتي أو التكوين التلقائي أو انبثاق الحياة من اللاحياة. فقد انتشر في القرن التاسع عشر مقولة أن الحياة قد تنشأ من غير الحي و ينسب إلى أرسطو أنه كان يستشهد لذلك ببعض المشاهدات العفوية مثل الحشرات والعفن المتكون على بقايا الخبز ووجود الفئران في صوامع الحبوب وظهور الديدان في اللحم المتعفن.
و توظيفاً لهذه المقولة ـ كما قال بعض من تعرض لنظرية التطور ـ قال داروين أن الحياة في أول الأمر لم تكن موجودة ثم بعد ذلك انبثقت من اللاحياة ، ثم بدأ التطور رحلته المعقدة. وقد حاول الملحدون الاستفادة من التوالد الذاتي وعرضوه كبديل يغني عن وجود علة غيبية تكون سببا لوجود الحياة على وجه الأرض.
قدمت دراسات متعددة لإبطال هذه الشواهد واثبات عدم وجود ما يدل على التوالد الذاتي فيها ومن تلك الدراسات والتجارب ما قدمه فرانشيسكو ريدى في عام1668 و باستير في عام 1865 .
الأمر الثاني : التطور النوعي أو الانتواع . وهذا الأمر ما سوف نقف عليه في النقاط التالية.
النقطة الثانية : التطور في الأنواع ينقسم إلى قسمين :
القسم الأول : التطور داخل النوع ( micro-evolution) ، وهو ما يحدث في شكل ونمط حياة النوع مع الحفاظ على نوعيته .
القسم الثاني : تطور النوعي بتحول النوع إلى نوع آخر أو أكثر ( macro-evolution) .
النقطة الثالثة : قدم للقسم الأول من التطور ( micro-evolution) عدة تعريفات من أهما التعريف التالي :
(هو تطور نوع تشترك أفراده في صفات مخزونها الجيني بنحو ينتقل التغير إلى السلالة) .
وهذا التعريف يشتمل على قيدين مهمين :
1ـ النوع : ويقصد به مجموعة قابلة لأمرين:
الأول : التكاثر بوجود سلالة .
الثاني : تكاثر سلالة . وهذا ينطبق على الإنسان والحصان والحمار والأسد وغير ذلك من الأنواع ذات السلالات المتكاثرة ، ولا ينطبق على هجين الحصان والحمار ـ مثلاًـ ، لأنه عقيم لا سلالة له ، فهو ليس نوعاً مستقلاً .
2ـ المخزون الجيني أو الصندوق الجيني: وهو مجموع منشأ صفات الأفراد ، فلو فرضنا أن جميع أفراد الحصان تنقسم إلى قسمين متساويين أحدهما أبيض والآخر أسود ، فهنا المخزون الجيني الذي يعكس الفرق في أحدى الصفات و هي صفة اللون عبارة عن 50% للون الأبيض و 50% للون الأسود ، والتطور عبارة عن اختلال هذه النسبة. 
في المملكة المتحدة في القرن التاسع عشر حدث تطور ( micro-evolution) للفراشات المنقطة. فقد كانت تحط على الأشنات الفاتحة فوق الأشجار ، ثم بعد أن اسودت الأشجار بسبب عوادم المصانع تحول لون الفراشات إلى اللون الأسود ، وبعد أن وضعت قوانين خاصة في منتصف القرن العشرين تضبط المصانع وتحدد ما ينبعث منها زال اسوداد الأشجار فازداد عدد الفراشات الفاتحة .
إن هذا التغير كما يقول التطوريون له أسبابه الخاصة ـ التي سوف نتعرض لها ـ، و بها تغير المخزون الجيني المسئول عن الشكل الخارجي للفراشات ، و بتغيره تغير لون الفراشات مع انحفاظ نوعها ، فهو من ( micro-evolution) . 
النقطة الرابعة : في كيفية حصول ( micro-evolution)، وقد ذكر له أسباب خمسة تشكل الأربعة الأولى منها مقدمة للسبب الأهم ، وهو السبب الخامس.
السبب الأول : تقلص عدد الأفراد ،كأن ينقرض في مثال الحصان السابق نصف عدد أفراد اللون الأسود فتكون نسبة المخزون الجيني 75% أبيض 25% أسود.
السبب الثاني : التزاوج واختلاط الصبغة الوراثية .
السبب الثالث : الطفرة (Mutation) .
في التكاثر الجنسي يقع توليف جيني ( Genetic recombination) وذلك عندما تأخذ الجاميتا نصف عدد الكروموسومات ثم يحصل مزيج بينهما عند التقاء الحيوان المنوي مع البويضة ، ويستمر هذا التمازج في عملية النمو ، وفي عملية التكاثر تستنسخ الخصائص الوراثية ذات التأثير على الشكل والمظهر ، وهذا هو السبب الثاني ((Mating . 
وأما السبب الثالث فهو يعني : أن عملية النسخ قد يحصل فيها خطأ نتيجة عوامل متعددة تغير من موقع الجينات داخل الكروموسومات منها التلوث والجسيمات المنبعثة في الفضاء والتي تصيب الجينات وتأثر عليها ، وهذا ما يحدث تغيراً في السلالة حيث يستنسخ الشكل الأخير ، فيختلف الخلف عن سلفه.
السبب الرابع : الانسياب الجيني(Gene flow) أو هجرة الموروثات .و يقصد به تبادل الجينات بين المجموعة السكانية (العشيرة) نظير تزاوج المقاتلين الامريكيين في فيتنام مع السكان الاصليين والمقاتلين العرب في أفغانستان والشيشان ، فإنه يحدث تركيبا جينياً جديداً في السلالات المتعاقبة .
السبب الخامس : وهو الأهم في نظرية التطور هو الإنتخاب الطبيعي( Natural selection ). وهو يعني بقاء الأقوى في صراع البقاء ، إن الأسباب السابقة قد تحدث تغيراً عشوائياً كما إذا كان سبب التغير الطفرة أو تقلص الأفراد بسبب عامل طبيعي كالزلزال ، إلا أن هذا لا يشكل حقيقة التطور الذي يعني سريان التغير في السلالات ، إن ما يوجب بقاء التغير واستمراره هو الانتخاب الطبيعي وهو لا يقوم على أساس عشوائي ، وإنما على أساس مقومات البقاء في صراعات الحياة عبر الأجيال .
إن تغير لون الفراشة المنقطة إلى الأسود أو الدب القطبي إلى الأبيض قد يكون نتيجة طفرة ، إلا أن هذه النتيجة لما كانت في صالح الفرد خلافاً للون السابق حيث يساعد و يُعين المفترسين على الافتراس و الطرائد على الهروب لسرعة الرصد بسبب التميز ، فإن الجليل السابق لصعوبة حياته مع الوقت سوف ينقرض ويبقى الجيل الجديد ، وهذا هو معنى الانتخاب الطبيعي( Natural selection ).
يقول كوين في كتاب ( لماذا التطور حقيقة؟ ) : الانتخاب الطبيعي كان الجزء الذي اعتُبِر الأكثرَ ثوريةً في عصر دارونمن النظرية التطورية ، ولا زال مزعجاً للكثيرين. الانتخاب الطبيعي فكرة علمية ثورية ومقلقة على السواء لنفس السبب: أنها تفسر التصميم الظاهر في الطبيعة بعملية مادية صرفة لا تتطلب خلقاً أو توجيهاً من قوى فوق طبيعية. فكرة الانتخاب ليست عسيرة على الفهم. إذا تباين الأفراد في نوع جينياً أحدهم عن الآخر، وكان بعض هذه الاختلافات يؤثر على قدرة الفرد على البقاء والتكاثر في بيئته، من ثم فإنه في الجيل التالي سيكون للجينات المؤدية إلى بقاء وتكاثر أعلى نسخ أكثر مقارنة بالجينات التي ليست جيدة هكذا. وبمرور الزمن، ستصير المجموعة تدريجياً متلاءمة مع بيئاتها أكثر فأكثر بسبب نشوء طفرات وراثية مفيدة وانتشارها في المجموعة، بينما الطفرات الضارة تُستأصَل. و في الأخير ، تنتج هذه العملية كائنات متكيفة جيداً مع مواطنها وأساليب حيوتها. هاكَ مثالاً بسيطاً: استوطن الماموث المكسو بالفرو الأجزاء الشمالية من أوراسيا وشمال أمركا، وكان متكيفاً للبرودة بإنتاج غطاء سميك من الشعر (عُثِر على عينات متجمدة كاملة منه مدفونة في التندرة، Tundra منطقة خالية من الأشجار تقع بين المنطقة المتجمدة وخط الأشجار في المنطقة المتجمدة الشمالية وأرضها دائمة التجمد). ربما انحدر من أجداد للماموث كان لديها شعر قليل، كالفيلة المعاصرة. أدت الطفرات الوراثية في النوع السلفي إلى أن يكون بعض أفرد الماموث_كبعض البشر المعاصرين_أشعر من الآخرين. عندما صار المناخ بارداً، وعندما انتشر النوع في مناطق أكثر شماليةً، كان الأفراد المشعرون أفضل قدرة على احتمال بيئاتهم القارصة البرودة وتركوا ذرية أكثر من نظرائهم الأكثر جرودة. هذا أغنى المجموعة بجينات كثرة الشعر. في الجيل التالي، سيكون الماموث المتوسط أشعر قليلاً من السابق. فلتستمر هذه العملية خلال بضعة آلاف الأجيال، ويُستبدَل الماموث الأجرد بآخر أشعث. ولتؤثرْ العديد من الصفات المختلفة على مقاومته للبرد (على سبيل المثال: حجم الجسد، كمية الشحم، وهكذا)، وهذه الصفات تتغير بتزامن. العملية بسيطة على نحو ملاحظ. فهي تتطلب فقط أن يتباين أفراد النوع جينياً في قدرتهم على البقاء أحياء والتكاثر في بيئتهم. مسلِّمين بهذا، فإن الانتخاب الطبيعي والتطور حتميان. كما سنرى، فإن هذا المُتَطَلَّب نجده في كل نوعٍ قد فُحِصَ. وبما أن الكثير من الصفات يمكن أن تؤثر في تكيف الفرد مع بيئته (ملاءمته)، فإن الانتخاب الطبيعي يمكنه_عبر الدهور_نحت حيوان أو نبات إلى شيءٍ يبدو مُصَمَّماً.
النقطة الخامسة : من الأمور المذهلة جداً كثرة الأنواع التي تعيش في كوكب الأرض .
فإن التنوع البيولوجى موجود فى الغابات والمحيطات والأنهار والبحيرات والصحارى . ولا يعلم أحد عدد أنواع الكائنات الحية بالدقة ، نعم يتراوح العدد حسب تقديرات العلماء بين 5 و 80 مليون ، ولم يكتشف إلى الآن إلا 1,4 مليون نوع، من بينها 000, 750 حشرة و 000, 41 من الفقاريات و000, 250 من النباتات، والباقي من مجموعات اللافقاريات والفطريات والطحالب وغيرها من الكائنات الحية الدقيقة.
السؤال هو : كيف وجدت هذا الأنواع ؟
توجد نظريتان أساسيتان تتصدران المشهد :
النظرية الأولى نظرية الخلق : وهي ترى أن الإله أوجد هذه الأنواع في عرض واحد .
و قد طرح العهد القديم في سفر التكون هذه النظرية فقد جاء فيه : (قال الله : 9 ـ لتجتمع المياه تحت السماء في منطقة واحدة ، أن الأراضي الجافة قد تظهر". وكان من ذلك.10. ودعا الله الأرض اليابسة ، وجمع مياه البحار ودعا. ورأى الله ان هذا كان جيدا. 11. وقال الله : "اسمحوا الارض تنبت النبات ؛ البذور -- اضعة النباتات وأشجار الفاكهة من كل نوع على الارض ان تؤتي ثمارها مع البذور فيه". وكان من ذلك. 12. جلبت عليها الأرض الغطاء النباتي : البذور -- اضعة النباتات من كل نوع ، وأشجار الفاكهة من كل نوع واضعة مع البذور فيه. ورأى الله ان هذا كان جيدا. 3. وكان مساء وكان صباح يوم ثالث. 14. قال الله : "يجب ألا يكون هناك أضواء في جلد السماء لتفصل الليل من النهار ، بل يكون بمثابة علامات لأوقات معينة -- الايام والسنين ؛ 15. ويتعين عليها أن تكون بمثابة الضوء في جلد السماء ليلمع على الارض "، وكان من ذلك. 16. جعل الله النورين العظيمين ، النور الأكبر لتهيمن على أقل من يوم وتهيمن على الليل ، والنجوم. 17. وجعلها الله في جلد السماء ليلمع على الأرض ، 18. للسيطرة على ليلا ونهارا ، وعلى فصل الضوء من الظلام. ورأى الله ان هذا كان جيدا. 19. وكان مساء وكان صباح يوم رابع. 20. قال الله تعالى : "اسمحوا المياه تؤدي الى أسراب من المخلوقات الحية ، والطيور التي تحلق فوق الارض عبر فسحة من السماء". 21. خلق الله وحوش البحر الكبير ، وجميع المخلوقات الحية من كل نوع التي تزحف ، والتي جلبت المياه في أسراب ؛ وجميع الطيور المجنحة من كل نوع ورأى الله ان هذا كان جيدا. 22. باركها الله قائلا : "قد تكون خصبة وزيادة ، وملء المياه في البحار ، والسماح للطيور زيادة على الأرض. 23. وكان مساء وكان صباح يوم الخامس على التوالي. 24. قال الله تعالى : "اسمحوا الارض تؤدي الى كل نوع من أنواع الكائنات الحية : الماشية ، والزحافات ، والحيوانات البرية من كل نوع" وكان من ذلك.25. جعل الله الحيوانات البرية من كل نوع والمواشي من كل نوع ، وجميع أنواع الأشياء الزاحف من الارض. ورأى الله ان هذا كان جيدا. 26. وقال الله : "فلنجعل الرجل في صورتنا ، وبعد الشبه لنا ، وهم يبت على سمك البحر وطير السماء ، والماشية ، والأرض كلها ، وجميع الأمور الزاحف).
وفي القرآن الكريم والروايات الواردة عن أهل بيت العصمة ( عليهم السلام) ما يدل على أن الإنسان خلق نوعاً مستقلاً من بعدين أحدهما مجرد وهو الروح والآخر مادي وهو الطين وليس متطوراً من نوع سابق ، وأن الإنسان الأول الذي ينتمي إليه الجنس البشري الموجود هو آدم وزوجته حواء ، وأنهما انزلا إلى الأرض ، كما تدل بعض الروايات على وجود بعض الحيوانات في الأرض قبل نزول آدم وحواء ، كما هنالك ما يدل على أن الله خلق الإنسان بل الأحياء طراً من الماء واستعراض ما يدل على ذلك يخرجنا عن غرض كتابة هذه المقالة .
قال العلامة الطباطبائي (رحمه الله) في تفسير الميزان ج 4 ص 148 بعد أن استعرض آيات بدء خلق الإنسان : كلامفي أن الإنسان نوع مستقل غير متحول من نوع آخر : الآياتالسابقة تكفي مؤونة هذا البحث ، فإنها تنهي هذا النسلالجاري بالنطفة إلى آدم وزوجته وتبين أنهما خلقا من تراب ،فالإنسانية تنتهي إليهما وهما لا يتصلان بآخر يماثلهما أويجانسهما وإنما حدثا حدوثا ).
ثم تعرض (رحمه الله) لنظرية تكامل الإنسان من نوع سابق ثم قال: ( وهذه فرضية افترضت لتوجيه ما يلحق بهذهالأنواع من الخواص والآثار من غير قيام دليل عليهابالخصوص ونفي ما عداها ، مع إمكان فرض هذه الأنواعمتبائنة من غير اتصال بينها بالتطور وقصر التطور علىحالات هذه الأنواع دون ذواتها وهي التي جرى فيها التجارب، فإن التجارب لم يتناول فردا من أفراد هذه الأنواع تحولإلى فرد من نوع آخر كقردة إلى إنسان ، وإنما يتناول بعضهذه الأنواع من حيث خواصها ولوازمها وأعراضها .واستقصاء هذا البحث يطلب من غير هذا الموضع ، وإنماالمقصود الإشارة إلى أنه فرض افترضوه لتوجيه ما يرتبط بهمن المسائل من غير أن يقوم عليه دليل قاطع ، فالحقيقة التييشير إليها القرآن الكريم من كون الإنسان نوعا مفصولا عنسائر الأنواع غير معارضة بشئ علمي ).
النظرية الثانية : نظرية التطور الانتواعي ( macro-evolution). 
وهي نظرية داروين الشهيرة القائلة بأن الأسباب الخمسة المتقدمة في القسم الأول من التطور الواقع داخل النوع ( micro-evolution) والذي تحدثنا عنها في مثال الفراشة المنقطة تجري في النوع وتوجب تطوره ليس في الشكل وبعض الصفات فحسب وإنما في جوهره ومضمونه حتى يتحول إلى نوع آخر أو أنوع مختلفة ، نعم هذا النوع من التطور يحتاج إلى زمان أطول قد يمتد إلى مليارات السنين .
وقد طرحت هذا النظرية كبديل عن نظرية الخلق.

No comments:

Post a Comment