Sunday, April 5, 2015

تطور البيان الشيعي في المعتقد والمعارف

محاضرة لساحة الشيخ حيدر السندي ( حفظه الله )
قال سيدنا ومولانا الإمام الصادق (عليه السلام) : (حديثي حديث أبي ، وحديث أبي حديث جدي ، وحديث جدي حديث الحسين ، وحديث الحسين حديث الحسن ، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين عليه السلام وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وحديث رسول الله قول الله عزوجل)( الكافي للكليني ج1 ص53)
يقع البحث حول هذا العنوان (تطور البيان الشيعي في المعتقد والمعارف) في نقاط ثلاث:
النقطة الأولى: في تحديد المراد من العنوان.
ويقع البحث في هذه النقطة في أمرين:
الأمر الأول: أنّ الدين الواقعي الذي أنزله الله تبارك وتعالى على نبيه (صلى الله عليه وآله)، والذي أمر الناس أن يتدينوا به دين واحد ثابت لا يتغير ولا يتبدل هو الدين الذي عند خاتم الأنبياء وهو الدين الذي عند خاتم الأوصياء (عجل الله فرجه الشريف)، فالدين كحقيقة واقعية عند المعصوم أمر ثابت ليست له مراحل فهو لا يتمرحل وليست له أطوار فهو لا يتطور، الدين الذي أنزل الله تعالى هو الإسلام، {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِالْإِسْلَامُ}(آل عمران:19)، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَمِنْهُ}(آل عمران:85)، هذا الدين الذي هو الإسلام دين واحد ، ما عند المهدي من الدين هو عين الدين الذي عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) من دون تغير وتبدل، يقول الإمام الصادق (عليه السلام): (حديثي حديث أبي ، وحديث أبيحديث جدي ، وحديث جدي حديث الحسين ، وحديث الحسينحديث الحسن ، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين عليهالسلام وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله صلى الله عليهوآله وحديث رسول الله قول الله عز وجل)(الكافي للكليني ج1 ص53).
فهم ينطقون عن حقيقة واحدة ثابته لا يختلفون فيها ، وعليه إذا تحدثنا عن التطور والتمرحل فنحن لا نقصد بهذا الحديث واقع الدين وحقيقة الدين كحقيقة ثابتة عند المعصومين( عليهم السلام).
الأمر الثاني: أنّ الدين الواحد الذي لا يتغير ولا يتبدل،لم يبين دفعة واحدة ، وإنما بين على نحو التدريج، وهذا ما تقتضيه طبيعة الأمور، الكلام يتكون من جمل والجمل تتكون من كلمات، الكلمات تتكون من حروف، وبين هذه الأجزاء تقدم وتأخر زماني، لا يمكن في آن واحد يتكلم الإنسان بجملة تتكون من عدة كلمات، لا يمكن في آن واحد أن يبين جميع عقائد الدين، جميع حقائق الدين وجميع المعارف الدينية، الكلام في طبيعة ، موجود زماني متصرم ،. فلا يمكن أن نبين في لحظة واحدة بالكلام جميع معارف الدين، التدرج في الدين مما تقتضيه طبيعة كل هذه الأمور ، وقد دلت جملة من الروايات على أنّ أول ما بين من العقائد التوحيد ثم بينت النبوة ثم بينت سائر العقائد، فقد روى الطرفان عن داود المخارجي، أنه قال رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) بسوق ذي المجاز وعليه جبة له حمراء وهو ينادي بأعلى صوته: (يا أيها الناس قولوا لا إله إلاّ الله تفلحوا)(بحار الأنوار للمجلسي ج18ص202).
الرسول (صلى الله عليه وآله) في ذلك الزمان يقول قولوا لا إله إلاّ الله تفلحوا، فلكي يكون الانسان فب ذلك الزمان فالحاً ولكي يظفر بالسعادة يكفي أن يقول لا إله إلاّ الله، فهل يكفي ذلك في زماننا !
بالطبع لا يكفي، بل لابد أن يعتقد الانسان بمجموعة من العقائد بينها رسول الله (صلى الله عليه وآله).
في رواية أخرى لما بعث رسول الله ( صلى الله عليه وآله) معاذاً إلى اليمن قال له: أنك تقبل على قوم من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه أن يوحدوا الله تبارك وتعالى).
فاول أمر بين التوحيد ثم بينت سائر العقائد، وهذا يعني أنّ البيان مر بمراحل ومر بأطوار :
أولاً بين التوحيد ثم بين التوحيد مع النبوة الخاصة للنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)، ثم بين التوحيد والنبوة وبين معهما المعاد وهكذا تدرج البيان الديني في تفسير وشرح وتوضيح العقائد التي أمر الله تبارك وتعالى بالتدين بها.
كلامنا إنما يدور حول تطور البيان العقدي، تطور توضيح الأئمة للعقيدة و لما يجب أن يلتزم به الإنسان ويتدين به،وليس في تطور نفس العقيدة والدين فالكلام يرتبط بتطور البيان نفسه و ليس تطور المبين.
النقطة الثانية: بيان عوامل تطور البيان الديني في مدرسة أهل البيت ( عليهم السلام) .
لماذا العقيدة والمعارف في بيانها مر بأطوار؟
ذكرنا في النقطة السابقة ان هذا التدرج هو ما ما تقتضيه طبيعة الكلام التدريجية ، غير أنه في هذه النقطة نبين ثلاثة عوامل اقتضت تفاوت البيان :
العامل الأول: هو ضعف الاستعدادات وتفاوت القابليات.
العقيدة والمعارف كأي علم من العلوم لا يمكن أن تستوعب مرة واحدة ودفعة واحدة، فان العلوم تتكون من مقدمات ونتائج، ثم إن العلم فيه معارف عميقة معقدة ومعارف سهلة ، و لا يمكن أن يلج الإنسان مباشرة في المعارف والقضايا العميقة بل عليه أولاً أن يخضع لدورة مبسط يتعرف على قواعد العلم بنحو مبسط ثم بهذا يتهيأ إلى معرفة المسائل الأعمق، وهكذا يتدرج من السهل إلى الصعب، من المسائل التي تشكل مقدمات إلى المسائل التي تبنى عليها، وهذا ما قام به الأئمة (عليهم السلام ( في بيان الدين، الأئمة (عليهم السلام )كتموا بعض المعارف وبينوا البعض الآخر، ليكون ما بين مهيئاً للناس لاستقبال واستيعاب ما كتم في المستقبل، يقول الصادق )عليه السلام( :(وإذا رأيت من هو أسفل منك درجة فارفعه إليك برفق، ولا تحمله ما لا يطيق فتكسره، فإنّ من كسر مؤمناً فعليه جبره)(الكافي للكليني ج2 ص45)، بعض المعارف لصعوبتها لا تستوعب من قبل عامة الناس، بيانها لبعض الناس قد يشكل ضرراً بالنسبة إليهم ،بيانها للبعض من تحميل الاسفل ما لا يحتملون ، قد يؤدي إلى كسره ، لهذا ينبغي أن لا يبين الإنسان كل ما يملك من معرفة إلاّ إذا وجد من يستوعب ومن عنده قدرة، فليس كل ما يعلم يقال، وليس كل ما يقال حضر أهله، وليس كل ما حضر أهله حضر زمانه.
ورب جوهر علم لو أبوح به لقيل أنت ممن يعبد الوثنا
ولا استباح رجال مسلمون دمي يرون أقبح ما يأتونه حسنا
الأئمة (عليهم السلام) يتكتمون على بعض المعارف لعدم وجود الاستعداد إلى زمان يوجد فيه الاستعداد، وأيضاً قابلياتأصحاب الأئمة (عليهم السلام) كانت متفاوتة، بعض أصحاب الأئمة عنده قابلية الفقه فيعطونه مسائل الفقه، وبعضهم عنده قابلية التفسير فيعطونه التفسير وهكذا، ولهذا اختلفت تخصصات أصحاب الأئمة يوجد فقهاء كزرارة ومحمد بن مسلم وعلماء تفسير مثل أبان بن تغلب، وعلماء في العقيدة كهشام بن الحكم، فتفاوت القابليات وضعف الاستعداد جعل الأئمة (عليهم السلام) يتدرجون في بيان معارف الدين وعقائد الدين، بينوا العقيدة بنحو مبسط وبينوها لبعض الأفراد دون البعض الآخر، ثم بينوا العقيدة بنحو أعمق لما قويت الاستعدادات ووجد من هو أهل لتقبل المعرف المعمقة.
العامل الثاني: الظرف السياسي والاجتماعي.
من يوم ارتحال النبي (صلى الله عليه وآله) وإلى غيبة الإمام المهدي (عليه السلام ) تقريباً كانت عقيدة الحكومات الرسمية تختلف عن عقيدة الأئمة (عليهم السلام) ، كانت يوجد عقيدة رسمية ومذهب رسمي، والأئمة (عليهم السلام) يوجد عندهم عقيدة أخرى تختلف عن عقيدة المذهب الرسمي، فما كان الأئمة (عليهم السلام) بسبب الوضع السياسي يتمكنون من بيان كل العقائد و المعارف، أو يبينون في كل مناسبة المعارف بنحو معمق، نعم؛ في أوقات تمكن الأئمة (عليهم السلام ) من بيان العقيدة بنحو معمق في بعض المناسبات لوجود ظرف ساعد على ذلك، وبالتحديد تلك الأوقات هي أوقات ثلاثة:
الوقت الأول: حكومة أمير المؤمنين (عليه السلام) .
البعض يعبر بوقت إمامة أمير المؤمنين وهذا التعبير غير دقيق، أمير المؤمنين (عليه السلام)؟ كان إماماً في زمن رسول الله، بل كان وصياً وآدم بين الطين والماء، وهو إمام بعد رسول الله وإلى أن يرث الأرض ومن عليها، الفترة التي لا تتجاوز خمس سنوات هي فترة تمكن أمير المؤمنين (عليه السلام) من ممارسة حكومته على نطاق واسع ، وليست هذه الفترة إمامته (عليه السلام) فقط .
هذه الفترة صار فيها انفراج نسبي، استطاع أمير المؤمنين أن يبين ما لا يستطيع بيانه سابقاً ولكن أيضاً هذا الانفراج لم يمكن الإمام (عليه السلام) من بيان العقيدة بنحو معمق، لأنّ تلك الفترة من جهة محدودة لا تصل إلى خمس سنوات، ومن جهة كانت فترة فتن وحروب، وأيضاً كان أغلب الذين حول أمير المؤمنين ليسوا بشيعة بالمعنى الدقيق بل كان أغلبهم يرون أنّ حكم أمير المؤمنين نتيجة طبيعية للحكومات السابقة وأنّ الإمام وصل من خلال البيعة والشورى، والإمام (عليه السلام) بين هذا المعنى،الشيخ الكليني نقل عن أمير المؤمنين (عليه السلام ) أنه قال: (قد عملت الولاة قبلي أعمالاً خالفوا فيها رسول الله (صلى الله عليه وآله) متعمدين لخلافه ، ناقضين لعهده مغيرين لسنته ولوحملت الناس على تركها وحولتها إلى مواضعها وإلى ما كانتفي عهد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لتفرق عني جنديحتى أبقى وحدي أو قليل من شيعتي الذين عرفوا فضليوفرض إمامتي)(الكافي للكليني ج8 ص59) .
فأمير المؤمنين (عليه السلام) يقول قلة الذين يعرفون فضلي، ومنزلتي وفرض إمامتي اي قرون بانه منصب من قبل الله تبارك وتعالى، السواد الأعظم يعتقدون أنه حاكم جاء بالشورى والبيعة، في مثل هذا الظرف ما كان الإمام (عليه السلام )؟يتمكن من بيان العقيدة بياناً تاماً.
أمير المؤمنين (عليه السلام ) ما كان يتمكن من إرجاع الناس إلى سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله ) في مسألة فرعية وهي مسألة أنّ الجماعة لا تكون إلاّ في فريضة،يقول (عليه السلام) : (والله لقد أمرت الناس أن لا يجتمعوا فيشهر رمضان إلا في فريضة وأعلمتهم أن اجتماعهم فيالنوافل بدعة فتنادى بعض أهل عسكري ممن يقاتل معي : ياأهل الاسلام غيرت سنة ...)(الكافي للكليني ج8 ص63)، ف في سلوك عملي يرجع إلى مسألة فقهية فرعية ما كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يتمكن من إرجاعهم إلى سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله ) ، فهل كان يتمكن من بيان عقيدة رسول الله بنحو معمق كما هي في ذلك الزمان! إذا كان في الفروع لا يتمكن فهو في الأصول من باب أولى.
الوقت الثاني: وقت الإمام الصادق (عليه السلام).
تلك الفترة هي فترة احتضار الدولة الأموية وولادة الدولة العباسية، الدولتان كانتا مشغولتين في وضعهما السياسي عن الإمام (عليه السلام)، فتمكن الإمام نسبياً من بيان العقيدة ومن بيان فروع الدين، فأخذت قواعد الفقه الشيعي منه، لكن أيضاً ما كان الإمام الصادق (عليه السلام) يتمكن من البيان تمكناً تاماً ومطلقاً، لأنّ السلطة السياسية وإنْ كانت ضعيفة في ذلك الزمان ولكن السلطة الاجتماعية قوية، السواد الأعظم كانوا من المخالفين، المعاهد العلمية في يد المخالفين هم الذين يدرسون في المسجد النبوي والمسجد المكي، فالعقل الجمعي المسيطر على المجتمع آنذاك يختلف مع الإمام (عليه السلام) في عقيدته، فما كان الإمام يستطيع أن يصطدم معهم من خلال بيان واقع العقيدة وحقيقتها كان يتقي الناس حتى في بيان الفروع، فقد روي انه ( عليه السلام) قال لأصحابه: (دعوا رفع أيديكم في الصلاة إلاّ مرة حتى تفتح الصلاة لأنّ الناس شهروكم بذلك والله المستعان ولا حول ولا قوة إلاّ بالله)(الكافي للكليني ج8 ص7).
من المستحبات رفع اليد عند التكبيرات التي يأتي بهاالإنسان في أفعال الصلاة، وهذا حكم شرعي من تفاصيل الفقه، الإمام يأمر فيه أصحابه بالتقية، لأن الناس يشهرون بالشيعك فيما إذا فعلوا هذا الفعل، إذا كان الإمام (عليه السلام ) يتقي في الفروع فهو يتقي في بيان العقيدة من باب أولى لأنها أخطر من الفروع لأنها الأساس التي تبنى عليها فروع الدين.
الوقت الثالث: وقت ولاية عهد الإمام الرضا (عليه السلام).
وفي تلك الفترة استطاع الإمام (عليه السلام ) أن يبين ما لم يستطع الأئمة السابقون (عليهم السلام) أن يبينوه .
من درس تلك الفترة يدرك ان الدولة العباسية قامت على شعار طلب الرضا لآل محمد، ولخلافات في البيت العباسي ادعى المأمون أنه شيعي وقرب العلويين بما فيهم الإمام الرضا (عليه السلام) وجعله ولياً للعهد أي الرجل الثاني في الدولة، فصار للإمام (عليه السلام)؟ منصب سياسي كبير ، ثم جعل الإمام (عليه السلام ) الناطق الرسمي عن الدين والشريعة، كان يظهر الخضوع للإمام الرضا (عليه السلام) ، وكان يسأل الإمام ( عليه السلام ) في مجلسه وفيه الوزراء والولاة والسفراء ووجهاء المجتمع، وكان يخضع لأجوبة الإمام (عليه السلام) خضوع المتعلم للمعلم ، و هذا أوجد للإمام منزلة اجتماعية عند الناس، الناس ما كانت تعرف الإمام (عليه السلام)؟، لأن مذهبهم يختلف عن مذهب الإمام، و بسبب التعتيم الإعلامي ولكن لما رأوا الخليفة يخضع للإمام في أخذ المعرفة الدينية والناس على دين ملوكهم، فوجدت منزلة كبيرة للإمام عند الناس ، فصار وضعه (عليه السلام) السياسي من جهة ووضعه الاجتماعي من جهة أخرى يساعد على أن يبين معارف الدين.
أصحاب الإمام (عليه السلام) أيضاً صارت لهم مكانة اجتماعية لأنهم أصحاب ولي العهد، هم المقربون من القصر، عندهم حصانة سياسية،وجاهتهم من وجاهة الإمام الرضا (عليه السلام) ، فصار بإمكانهم أن يلتقوا بالإمام في اي وقت وأن يسمعوا من الإمام ما يشاء أن يبين لهم وأن يتحدثوا في وسط الشيعة بما بين لهم الإمام (عليه السلام) ، فصارت الأجواء السياسية والاجتماعية مساعدة لأن يبين العقيدة ببيان عميق، وقد فعل (عليه السلام) ، بعض العلماء يقول لقب الإمام الرضا (عليه السلام) بلقب عالم آل محمد، لأنه بين عقيدة أهل البيت (عليهم السلام) ،الإمام الصادق (عليه السلام) بين الفروع، الإمام الرضا بين الأساس الذي تبتني عليه الفقه والفروع، فلقب بهذا اللقب،يقول إسحاق بن الإمام الكاظم قال لي أبي: (هذا أخوكمعلي بن موسى عالم آل محمد فاسألوه عن أديانكم ، واحفظواما يقول لكم ، فاني سمعت أبي جعفر بن محمد (عليهماالسلام ) غير مرة يقول لي : إن عالم آل محمد لفي صلبك ،وليتني أدركته ، فإنه سمي أمير المؤمنين علي)(بحار الأنوار للمجلسيج49 ص100).
العامل الثالث: العامل الثقافي.
في زمن هارون العباسي والمأمون، ترجمت كتب الإغريق واليونان والفهلويين قدماء الإيرانيين، والبراهمة قدماء الهنود،وهذه الكتب فيها رؤية كونية تختلف عن الرؤية التي يقدمها الإسلام، فيها نظريات ترتبط بأصل الكون وكيفية بقاء الكون وبالنبوة والوحي، وبيوم المعاد، وعلاقة الانسان بالمون ، وهذه النظريات تختلف عن الرؤية التي يقدمها الإسلام، فقد ابتلي المسلمون بثقافة وافدة ثقافة حديثة وهذه الثقافة تنتمي إلى مدارس عريقة جداً لها أكثر من ألف سنة، تقدم أدلة وبراهين على أفكارها ونظرياتها، فصار لهذه الثقافة الوافدة تأثير على المسلمين فتصدى الأئمة( عليهم السلام) من زمن الإمام الرضا (عليه السلام ) للرد على ما في هذه الكتب من أفكار.
و أيضاً بعض الذين دخلوا في الإسلام حديثاً كانوا يهودا أو نصارى أو صائبة أو ملاحدة ودخلوا في الإسلام فاستصحبوا معهم مجموعة من التساؤلات والاستفسارات، وعندهم أدلة سابقة على معتقداتهم السابقة، و يريدون أجوبة من الأئمة (عليهم السلام) على هذه التساؤلات والأدلة ، والأئمة (عليه السلام ) حفظا للدين و الواقع الاسلامي من هذه الثقافة الوافدة بينوا العقيدة في مسألة التوحيد والنبوة والمعاد بياناً دقيقاً لم يكن موجوداًٍ سابقاً لأنه لم يكن المسلمون مبتلين بهذه الثقافة الجديدة، فلما ابتلوا الأئمة (عليهم السلام) تصدوا، وبهذا تعمقت المعرفة،الإمام الرضا (عليه السلام ) تحدث في التوحيد كما تحدث الأئمة السابقون ولكن في حديثه عمق خاص، تحدث عن الإمامة ولكن في حديثه عمق خاص، بعد زمان الإمام الرضا (عليه السلام) انفتح المجال لكي يتحدث الإمام الهادي (عليه السلام) بمضامين الزيارة الجامعة، هذه المضامين العالية الدقيقة التي ما كان يتمكن الأئمة (عليهم السلام ) من بيانها إلاّ بعد أن وجدت الأرضية التي تقبل ، ولهذا كان بيانهم (عليهم السلام) متدرجا ، فان نفس الدين والمعارف و مضامين الزيارة الجامعة هي هي عند رسول الله( صلى الله عليه وآله)؟ ولكن هذه المضامين لم تبين إلاّ في زمن الهادي (عليه السلام) لأنّ الناس كانوا محتاجين إلى وقت حتى يصلوا إلى استيعاب هذه المضامين العميقة.
النقطة الثالثة: دفع شبهة.
وهذه الشبهة أثيرت حول ثبات المعتقد الشيعي، فبعض المخالفين قال نفس العقيدة الشيعية متأرجحة متطورة، تختلف من زمان إلى زمان، العقيدة التي عليها الشيعة اليوم ليست هي العقيدة التي عليها قبل ألف سنة، فهم يتطورون ويختلفون، واستشهد على ذلك بعدة شواهد، ونحن نقتصر على شاهدين، إذْ بمعرفة هذين الشاهدين يعرف حكم سائر الشواهد:
الشاهد الأول: مسألة إسهاء النبي (صلى الله عليه وآله(.
يقول المستشكل إذا رجعنا ألف سنة نجد بعض علماء الشيعة يجوزون إسهاء النبي (صلى الله عليه وآله) ، فإن الشيخ الصدوق وأستاذه ابن الوليد كانا يذهبان إلى جواز إسهاءالنبي (صلى الله عليه وآله) ، فإذا كان يجوز الإسهاء على النبي يجوز على الأئمة من باب أولى ، لأنهم دونه في الفضل والشرف، بينما اليوم نجد كل الشيعة يطبقون ويسلمون على امتناع إسهاء النبي (صلى الله عليه وآله) ، فهذا دليل على أنّ عقيدة الشيعة تتطور وتتأرجح.
الشاهد الثاني: مسألة أفضلية الأئمة (عليهم السلام ) على جميع الأنبياء إلاّ الخاتم (صلى الله عليه وآله).
وهذه المسألة أيضاً لم تكن واضحة في الأزمان السابقة،إذا ترجع إلى كتاب أوائل المقالات للشيخ المفيد تجده ينقل خلاف الشيعة في هذه المسألة، و يقول لا يوجد اجماع على أنّ الأئمة أفضل من جميع الأنبياء بينما في هذا الزمان لا يوجد عالم يعتد به يذهب إلى أنّ بعض الأنبياء أفضل من الأئمة (عليهم السلام) ، فالشيعة عندهم اتفاق ووضوح على أنّ الأئمة (عليهم السلام) أفضل من الأنبياء، وهذا دليل على أنّ الشيعة تتغير وتتطور.
وفي مقام التعليق على هذه الشبهة نذكر تعليقين:
التعليق الأول: هو أنّ اختلاف علماء مذهب في مسألة من المسائل لا يعني أنّ ذلك المذهب يتأرجح ويتطور في عقيدته وإلاّ يلزم أن يكون كل مذهب متأرجح ومتطور، حتى مذهب صاحب الشبهة، مذهب صاحب الشبهة مختلف في المسائل الفقهية، عندهم مذاهب أربعة، المذاهب الأربعة مختلفة فيما بينها، ثم في داخل المذاهب يوجد خلاف، هل هذا يعني أنّ الفقه الذي عليه المخالفون الآن يختلف عن الفقه الذي هم عليه ألف سنة، فقههم متأرجح ومتطور ليس ثابتا .
هم مختلفون حتى في المسائل العقدية كالصفات الخبرية {وَيَبْقَى وَجْهُرَبِّكَ}(الرحمن:27) {وَجَاءَ رَبُّكَ}(الفجر:22) {يَدُ اللَّهِ فَوْقَأَيْدِيهِمْ}(الفتح:10) {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}(طه:5)، ما المقصود بالوجه واليدين واستواء الرحمن؟ هم مختلفون:
بعضهم يثبت المعنى الحقيقي، الألباني يقول: رب العالمين يهرول، للحديث القدسي ومن جاءني ماشياً أتيته مهرولاً.
وبعضهم يأول ويوافق الشيعة، ويقول المقصود من اليد القدرة والاستواء السلطان.
وثالث: يفوض، فيقول نمضي هذه الصفات كما وردت ونفوض معناها إلى الله تعالى، فلا نعلم ما المقصود من اليد؟
فهم مختلفون في مسائل العقيدة، فهل هذا يعني أنّ عقيدتهم متأرجحة ومتطورة تختلف من زمان إلى زمان.
بماذا يجيب صاحب الشبهة عن سؤالنا هذا، نحن نجيب عن سؤاله.
ان خلاف عالم في مسألة غاية ما يدل عليه أن ذلك العالم لا يرى تلك المسـألة، إذا ذهب الشيخ الصدوق إلى جواز إسهاءالنبي غاية ما يدل عليه ذهابه أنه لا يرى الاستحالة فقط، ولا يدل على أنّ الاستحالة ليست صحيحة ليست مطابقة للواقع لأنه ليس معصوما ، كما أنه لا يدل على ان المذهب الشيعي متأرجح أو متطور.
التعليق الثاني: أنّ تحول مسألة من مسـألة غير واضحة إلى مسألة واضحة هذا أمر طبيعي لا يدل على تأرجح المذهب، من يقرأ التاريخ و يقرأ زمان الأئمة وأصحابهم إلى الغيبة وما بعدها، يجد أنّ تحول المسائل من حالة عدم الوضوح إلى الوضوح أمر طبيعي، الأئمة (عليهم السلام) كانوا يخصون بعض شيعتهم ببيان بعض المعارف لأنّ اختلاف القابلية كما بينا يؤثر على مقام البيان ومقام الإعلان، فالإمام (عليه السلام) يجد في أحد أصحابه قابلية معرفة عمق العقائد والمعارف ، فيطلعه على ما لا يطلع عليه غيره من اصحاب التخصص الفقهي ثم هذا الصحابي قد يسافر إلى بلده فلعله من نيشابور، او بغداد فتصبح تلك المعرفة في نيشابور، او بغداد و ليست معلومة في مكان اخر كالشام او الحجاز لأنّ وسائل نقل المعلومة في ذلك الزمان شبه معدومة، إذ لا توجد في ذلك الزمان مطابع ولا مكاتب تبيع الكتب، ولا انترنيت، في ذلك الزمان في الأعم الأغلب إذا أراد شخص أن يتحصل على كتاب يستعيره من صاحبه ويستنسخه بنفسه، ما كانت هناك وسائل متطورة لنقل المعلومات فربما شخص يأخذ رواية ويذهب بها إلى بلده وتكون تلك الرواية معلومة في بلده دون البلاد الأخرى، فيقع خلاف؛ وذلك لأنّ الذين في بلد من نقل الرواية يعلمون بها ، وأما الذين في البلدان الأخرى لا يعلمون بها، في الرواية عن أبان قلت : لأبي عبد الله (عليه السلام) : ما تقول في رجل قطع أصبعا من أصابع المرأة كم فيها ؟ قال : عشر؟ من الإبل ، قلت قطع اثنين ؟ قال : عشرون ، قلت : قطعثلاثا ؟ قال : ثلاثون ، قلت : قطع أربعا قال : عشرون ، قلت :سبحان الله يقطع ثلاثا فيكون عليه ثلاثون ويقطع أربعافيكون عليه عشرون ؟ إن ‹ صفحة 300 › هذا كان يبلغناونحن بالعراق فنبرء ممن قاله ونقول الذي جاء به شيطان ...)(الكافي للكليني ج7 ص300).لأنه لا يوجد عنده علم بقول الامام كان ينكر .
ولكن بعد أن جمعت الروايات ونظر العلماء إلى روايات الأئمة (عليهم السلام) نظرة شمولك أصبحت كثير من المسائل الخلافية مسائل واضحة، الشيخ المجلسي بذل جهداً كبيراً في تتبع مصنفات الشيعة، ثم جمعها في البحار، بعد كتاب البحار مسائل متعددة كان بعض العلماء يعتقد بعدم وجود روايات فيها، ثم وقف على وجود روايات فيها، مسائل كان العلماء يعتقدون أنّ الروايات الموجودة فيها أخبار آحاد ظنية، بعد البحار وجدوا تواتر في تلك المسائل كتواتر الروايات في أفضلية الأئمة (عليهم السلام) ، هذا الوضوح إنما جاء بعد أن جمعت الروايات، وجمعت المصنفات وإعمال النظر في الروايات،فالوضوح إذا تحقق بعد الخفاء لا يدل على أنّ نفس المذهب يتغير ويتبدل بل يدل على أنّ آليات الاجتهاد والاستنباط والبحث في ذلك المذهب تطورت .
الوضوح من الأمور التي ينبغي أن يهتم بها المؤمن،الوضوح في معارف الدين ومسائله، هذا الزمان هو زمن الشبهات، هناك أشخاص شغلتهم فقط تفريخ وتصدير الشبهات، هدفهم أن يشككوا الناس، المؤمن إذا لم يكن واعياً و لم يتحصل على المعرفة القوية قد يهزم أمام شبهة من هذه الشبهات.
هذه الشبهة التي ذكرها المستشكل واهية ولكنها تثار وتؤثر على بعض العقول والسبب في ذلك أنّ البعض لا يملك ثقافة كافية تحفظه وتحفظ إيمانه.
من الدروس التي نأخذها من حركة الإمام الحسين ( عليه السلام) وضوح العقيدة والمبدأ، من الدروس التي نأخذها من علي الأكبر (عليه السلام ) ، أنه كان واضحاً في منهجه، وأنه كان يملك وضوحا في عقيدة ، لما كان الإمام (عليه السلام)؟ يسير إلى كربلاء هومت عيناه فرأى رؤية، فقال (عليه السلام) : إنا لله وإنا إليه راجعون، فقال ولده علي الأكبر أبه حسين ما لي أراك استرجعت، قال يا بني: رأيت هاتفاً يقول القوم يسيرون ومناياهم تسير معهم، قال أبه يا حسين: أولسنا على الحق،قال بلى والذي بعث محمداً نبياً، فقال الأكبر : إذن لا نبالي وقع الموت علينا أو وقع علينا الموت.
القيت المحاضرة بتاريخ: 9 / 1 / 1436 هـ

No comments:

Post a Comment