بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين :
وبعد :
كثر الكلام في الآونة الاخيرة حول حقيقة راي سماحة آية الله العظمى السيد السيستاني ( حفظه الله) في مسالة حجية البينة في ثبوت الهلال واشتراط عدم التعارض الحكمي فيها ، وقد وجهت إلي أسئلة في ذلك من كثير من المؤمنين ، و هذا ما دعاني الى كتابة مقال مختصر يلقي شيئا من الضوء على هذه المسالة ، وسوف يكون كلامنا في مقامات ثلاثة :
⬅️المقام الاول : في توضيح كلامه ( حفظه الله ) .
قال ( حفظه الله) : ( مسألة 1043 : لا تختص حجية البينة (شهادة العدلين) بالقيام عند الحاكم، بل كل من علم بشهادتها عوّل عليها، ولكن يعتبر عدم العلم أو الاطمئنان باشتباهها وعدم وجود معارض لشهادتها ولو حكماً، كما إذا استهل جماعة كبيرة من أهل البلد فادّعى الرؤية منهم عدلان فقط، أو استهل جمع ولم يدّع الرؤية إلا عدلان ولم يره الآخرون وفيهم عدلان يماثلانهما في معرفة مكان الهلال وحدّة النظر، مع فرض صفاء الجو وعدم وجود ما يحتمل أن يكون مانعاً عن رؤيتهما، فإن في مثل ذلك لا عبرة بشهادة البينة).
والذي يعنينا من هذه المسالة قوله : (يعتبر عدم العلم أو الاطمئنان باشتباهها وعدم وجود معارض لشهادتها ولو حكماً، كما إذا استهل جماعة كبيرة من أهل البلد فادّعى الرؤية منهم عدلان فقط، أو استهل جمع ولم يدّع الرؤية إلا عدلان ولم يره الآخرون وفيهم عدلان يماثلانهما في معرفة مكان الهلال وحدّة النظر، مع فرض صفاء الجو وعدم وجود ما يحتمل أن يكون مانعاً عن رؤيتهما، فإن في مثل ذلك لا عبرة بشهادة البينة).
والذي ينبغي أن يقال في توضيحها هو : أن البينة - وهي شهادة عدلين - حجة في ثبوت الهلال أذا قامت عند المكلف أو قامت عليها بينة عنده أو لحصل اطمئنان من منشأ عقلائي كالشياع عليها ، غير ان حجية هذه البينة مشروطة بأمرين :
الامر الاول : أن لا يحصل قطع أو اطمئنان على خلافها ، ولحصول القطع أو الاطمئنان أسباب منها :
١- ان يخبر الفلكيون بعدم امكان الرؤية اعتمادا على حساباتهم التي لا تقبل الاشتباه او اذا قبلته ففي مقدار يسير لا يحتمل معه الرؤية أو يكون احتمالها ضئيلا وموهوما جدا .
قال ( حفظه الله ) في بعض الاستفتاءات : (إن من شروط حجّية البيّنة ( شهادة العدلين ) على رؤية الهلال هو عدم العلم أو الاطمئنان باشتباهها ، فإن حصل العلم أو الاطمئنان بذلك ولو من إخبار الفلكي ــ مثلاً ــ بكون الهلال بعدُ في المحاق أو بكونه بعدُ رفيعاً جدّاً بحيث لم ير مثله بالعين المجرّدة من قبل فلا عبرة بالبيّنة ، و إلا يؤخذ بها ولا أثر لإخبار الفلكي).
٢- أن تخرج جماعة كثيرة للاستهلال في أفق البلد كان يخرج الف - مثلا - و لا يراه الا إثنان او ثلاثة او خمسة من العدول ، فانه في هذه الحالة وان لم يكن في الذين لم يروه عدول إلا انه يحصل للإنسان اطمئنان بعدم صحة دعوى الرؤية إذ مع وحدة المكان والتساوي في حدة النظر ومعرفة موقع الهلال و صفاء الجو كيف لم تحصل الرؤية الا لهذا العدد القليل جدا من مجموع عدد المستهلين الكثير جدا !
الأمر الثاني : أن لا يكون هناك معارض للبينة ، و لو كان معارضا حكما لها .
والمقصود بالمعارض الحكمي ما هو بحكم المعارض الحقيقي وقد مثل سماحة (السيد حفظه الله) للتعارض الحكمي بقوله : (أو استهل جمع ولم يدّع الرؤية إلا عدلان ولم يره الآخرون وفيهم عدلان يماثلانهما في معرفة مكان الهلال وحدّة النظر، مع فرض صفاء الجو وعدم وجود ما يحتمل أن يكون مانعاً عن رؤيتهما، فإن في مثل ذلك لا عبرة بشهادة البينة).
فانه لو فرض خروج عشرة أشخاص للاستهلال - مثلا - ورأى الهلال منهم اثنان ولم يره الباقي وفيهم عدلان لم يقع تعارض حقيقي ، لان من لم ير لا يشهد بعدم وجود الهلال وإنما هو ينفي رؤيته ، ولكن نفس عدم رؤيته مانعة من حجية البينة .
وذلك لما ورد في النص الصحيح عن أبي عبد الله (ع) من أنه ( إذا رآه واحد رآه مائة وإذا رآه مائة رآه ألف ).
⬅️المقام الثاني : في بيان بعض التنبيهات المهمة المرتبطة بالتعارض الحكمي .
التنبيه الاول : لا يختص فرض التعارض الحكمي بمثال خروج ١٠ ورؤية اثنين منهم فقط مع وجود عدول في البقية ، بل يشمل ما لو كان الذين رأوه اكثر فلو فرض أن الذين شهدوا بالرؤية ثمانية - ولم يحصل الاطمئنان بشهادتهم - و الذين لم يروه اثنان عدلان تحققت المعارضة الحكمية ، كما في جواب العلامة المحقق السيد محمد رضا السيستاني (حفظه الله) على سؤال أرسلته بواسطة بعض الفضلاء .
التنبيه الثاني : اذا تحقق الاطمئنان بالرؤية ولو بقول الفلكي فلا حاجة الى البينة ولا يضر بالعمل بالاطمئنان عدم رؤية البعض.
ففي تأثير قول الفلكي قال ( حفظه الله ) في جواب سؤال (هل يجوز الاعتماد على الفلك بدلاً من رؤية الهلال ؟) : الجواب: قول الفلكي ان كان يستند الى المحاسبات الرياضية كإخباره عن زمان ولادة الهلال ومقدار ارتفاعه عن الافق لحظة الغروب ونحوها فهو مما يعتد به مع الامن من وقوع الخطأ في المحاسبة كما هو الحال مع تعدد المخبر وكمال خبرته ، واما اذا كان قوله مستنداً الى الحدس والتجربة كالشروط التي يذكرها البعض لكون الهلال قابلاً للرؤية بالعين المجردة من حيث حجم القسم المنار منه والارتفاع عن الافق والبعد عن ذلك فهذا مما لاعبرة به إلا مع حصول الاطمئنان بصحته ) .
وقال في جواب سؤال : ( اذا اطمأننت للرؤية الفلكية فهل يجوز لي ان اعمل بها؟ ) : الجواب: اذا حصل لك الاطمئنان من أقوال الفلكيين بكون الهلال في افق المكان الذي أنت فيه بنحو قابل للرؤية بالعين المجردة ــ لو لا السحاب ونحوه ــ عملت وفقه ولكن أقوال الفلكيين لا تورث الاطمئنان عاده بإمكانية الرؤية بالعين المجردة الا في بعض الحالات) .
التنبيه الثالث : في فرض خروج جماعة كثيرة ورؤية اثنين ونحو ذلك وعدم رؤية البقية ، وحصول الاطمئنان للمتصدي للهلال ، لا يصح له أن يعلن ثبوت الشهر استنادا الى البينة ، فإن البينة في نفسها مبتلاة بالتعارض على راي السيد السيستاني ( حفظه الله) وينبغي ان يبين ذلك للمؤمنين .
وهل له العمل باطمئنانه الشخصي ؟
هذا يعتمد على أن الاطمئنان هل حجة مطلقا أو فيما اذا حصل من مناشئ عقلائية ، ومختار السيد ( حفظه الله) الثاني وفي بعض أجوبته ما يدل على أن الاطمئنان في هذا الفرض لو حصل فليس منشؤه عقلائيا فقد قال ( حفظه الله ) في جواب سؤال ( شخص مؤمن قد اشتهر برؤيته الهلال لسنوات عديدة ، فهل يكفي حصول الاطمئنان من قوله في ثبوت الهلال ، وهل يكفي هذا الاطمئنان للآخرين بمعنى أن آمر اهل بيتي يعملوا باطمئناني ؟) : من حصل له الاطمئنان يعمل بمقتضاه ومن لم يحصل له فعليه العمل وفق الموازين الاخرى ولا ينفع اطمئنان شخص لشخص آخر ، علماً أنّ انفراد شخص بدعوى رؤيته للهلال مع وجود مستهلين آخرين يماثلونه في معرفة مكان الهلال وحدّة النظر مع فرض صفاء الجو وعدم وجود ما يحتمل أن يكون مانعاً عن رؤيتهم يثير الريب عادةً في صحّة دعواه بل يظن وقوعه فريسة الخطأ في الحسّ فكيف يتصوّر حصول الاطمئنان من قوله؟! .
التنبيه الرابع : قد يتصور البعض أن التعارض الحكمي يختص بكل مجموعة مجموعة فلو خرج في مكانين من أفق واحد مجموعتان و رَآه كل أفراد المجموعة الاولى دون الثانية لم يقع تعارض حكمي ، وهذا التصور غير صحيح فان عدم رؤية الثانية معارض للأولى وان اختلف مكانها ما دامت في الأفق نفسه .
ولعل مما يدل على ذلك مضافا الى ما سمعنها من غير واحد من معتمدي مكتب سماحة السيد ( حفظه الله) قول السيد ( حفظه الله ) التالي الوارد في بعض الاستفتاءات:
( ولعلّك لا تعلم أن ميآت الأشخاص في الاحساء والقطيف والكويت والعراق وفي سائر أرجاء المنطقة استهلّوا ليلة الجمعة ومعهم الأدوات المقرّبة وفيهم الكثير ممن يعلم مكان الهلال بدقّة ومع ذلك لم يتيسّر لهم رؤيته ، ولكن هناك أشخاص آخرون ادعوا الرؤية وفيهم كما قيل ( عدول أو ثقات ) فاعتمدهم جمع من وكلاء المنطقة وهذا لا ينسجم مع مبنى سماحة السيد – مدّ ظلّه ــ من وقوع التعارض الحكمي بين الشهادات المثبتة والنافية في مثل هذه الحالة لما ورد في النص الصحيح عن أبي عبد الله (ع) من أنه ( إذا رآه واحد رآه مائة وإذا رآه مائة رآه ألف ).
فان من الواضح أن المئات - كما هو الواقع - لا يخرجون في مكان واحد في الأفق الواحد وإنما يخرجون متفرقين ، ومع ذلك حكم السيد ( حفظه الله)بتحقق التعارض الحكمي ، وان اعتماد جمع من وكلاء المنطقة لا ينسجم مع مبناه .
وفي استفتاء آخر : (اذا استهل في كل بلد جمع من الناس ولم يدّع الرؤية الاّ نفر قليل منهم وفي الباقين من يماثلونهم في معرفة مكان الهلال وحدّة البصر مع فرض صفاء الجو وعدم وجود ما يحتمل أن يكون مانعاً عن رؤية الآخرين ،فان في مثل هذه الحالة لا يعتد بدعاوى الرؤية حسب فتوى سماحة السيد دام ظلّه).
وهنا لم يحدد السيد ( حفظه الله) أن المستهلين كانوا في مكان واحد من البلد ، وإنما اطلق العبارة ، وهذا يعني انه لو خرج من بلد واحد عدة أشخاص في أماكن متفرقة ورآه بعضهم دون البعض تحقق التعارض الحكمي اذا كانوا عدولا .
التنبيه الرابع : اذا تعدد مكان المستهلين في الأفق الواحد ، ورأى الهلال البعض دون البعض الاخر فهنا توجد صور :
١- ان نحرز التماثل في معرفة مكان الهلال وحدّة البصر مع فرض صفاء الجو وعدم وجود ما يحتمل أن يكون مانعاً عن الرؤية في الحميع .
وهنا يتحقق التعارض الحكمي .
٢- ان نحرز عدم المماثلة كأن يكون من لم ير في مكان غير صحو . و هنا لا يتحقق التعارض الحكمي .
٣- ان نحرز تتحقق المماثلة ولكن الجو غير صافي في جميع الأماكن.
وهنا يتحقق التعارض الحكمي كما في جواب العلامة السيد محمد رضا السيستاني دام مجده على سؤال أرسلته بواسطة بعض الفضلاء . وقد افاد سماحة العلامة الشهيدي ( حفظه الله) أن من شهد بالرؤية أن كان يشهد بان الجو في مكانه صار صحو
وارتفع المانع ثم رَآه لم يتحقق التعارض الحكمي.
٤- أن نجهل حالة الجو ، وقد اجاب سماحة السيد محمد رضا السيستاني ( حفظه الله) بأن على الشخص أن يسأل من اخبر بالروية وعدمها عن ظروف الروية حتى تتوفر لديه شروط التعارض الحكمي من عدمه .
⬅️المقام الثالث : في اختلاف المتصدين لتشخيص حالة الهلال وفق مباني السيد السيستاني ( حفظه الله) .
اذا اختلف المتصدون لتشخيص حالة الهلال فحكم بعضهم بدخول الشهر وعدم التعارض الحكمي دون البعض الاخر ، فإن اختلافهم يرجع إلى أحد أمرين أو إليهما معا :
الامر الأول : عدم وضوح مبنى السيد ( حفظة الله) كما لو تصور البعض أن تعدد مكان المستهلين في الأفق الواحد كاف لرفع التعارض الحكمي وإن كان الجو صافيا في جميع الأماكن .
الأمر الثاني : الاختلاف في تشخيص الموضوع ، كما لو احرز بعضهم عدالة بعض من لم ير الهلال ولم يحرز البعض الاخر ، أو أحرز البعض عدم العلة وصفاء الجو وتساوي الشهود دون البعض الاخر .
ولهذا يتضح أن اختلاف الفضلاء في تشخيص حالة الهلال ليس سببه بالضرورة عدم وضوح المباني عند بعضهم - كما يروج البعض - ، كما يتضح - ايضا - أن الاختلاف في تشخيص الهلال أمر تقتضيه طبيعة اختلاف الناس في التشخيص من حين وفرة القرائن المعتمدة وعدم وفرتها وسرعة وبطء حصول الاطمئنان ، هذا فيما اذا كان الملاحظ مباني فَقِيه واحد وقُصر النظر عليها ، فكيف ! اذا اخذنا بالحسبان تعدد المراجع المقَلَدين واختلاف مبانيهم ، من هنا ينبغي أن يتثقف المؤمن بثقافة تقبل الاختلاف فيما اذا اقتضته المباني الفقهية أو اختلاف المكلفين في التشخيص ، وأن لا يجعلوا ذلك سببا للخلافات الشخصية واثارة النعرات وتوجيه سهام النقد غير الملتزم وممارسة التجهيل والتقسيط والاتهام بالعجلة ونحو ذلك .
فليس من مظاهر ضعف المجتمع وعدم وحدته اختلاف الوظائف الشّرعيّة ، ولا ينبغي أن جعل من هذا الخلاف الذي لايمكن رفعه مظهرا من مظاهر التشرذم ومنافيا للوحدة وروح الإخوة والمحبة . والحمد لله رب العالمين
حيدر السندي
No comments:
Post a Comment